بقلم : علي أبو الريش
لقد ازدحمت الأرض، وأتخمت بالجنون والأفكار وأخبار التاريخ، ما جعل الذاكرة مثل مخزن قديم عبثت به الرمة. لم يعد الإنسان القديم قادراً على مواجهة الحياة صار يقطع أوصالها، إرباً، إرباً، مثل حطاب عشوائي لا هم له سوى بناء الأكواخ لأشباه بشر، فارين من البرد.
حاول أن يصير الإنسان القديم مثالياً لم يستطع، فتحول إلى إمبراطورية مستبدة، أشبه بتلك الإمبراطورية الرومانية التي جاءت على أنقاض الحضارة اليونانية، فلا هي عاشت واستمرت، ولا تركت فلسفة سقراط تأخذ مجراها في أدغال الفكر الإنساني.
اليوم وبعد أكثر من ثلاثة آلاف عام من انقضاء الطموح السقراطي الذي أراد للعالم، أن يتحول من الوثنية إلى المعرفة الواقعية أصبحنا أمام مأزق وجودي، أصبحنا نبحث عن وجودنا، من خلال الأنا المأزومة أصلاً بحثالة الأفكار، فمنذ أن حلت فكرة بحث الإنسان عن المستقبل، والإنسان القديم يهيم في غابة اللاوعي؛ لأنه فكر بالقفز، ومن يقفز لا بد أن يقع، فينكسر أحد أعضائه،
وللأسف إن ما انكسر في الإنسان هو رأسه الذي يحتوي العقل، صار العقل مجرد كتلة من اللهب يحرق، ويسرق، ويمرق، ويمزق، ويفرق، ويغرق، ولا شيء يشع فيه لأنه انطفأ منذ أن فكر في الذهاب إلى الخارج، متناسياً الداخل. هناك في الداخل، حيث يسكن الجحيم، هناك حيث تستوطن العتمة، ولا شيء في أفق الذات، ما يجعله مستنيراً.
منذ زمن بعيد والإنسان لا يتذكر أنه ينسى، ولا يتذكر غير الماضي، هذا الماضي الذي أصبح الديناصور الوحيد الذي لم ينقرض، ولو بقيت ديناصورات الكون كلها، وذهب الماضي لكان العالم في أحسن حال، والإنسان ينسى الحياة، ينسى الحاضر الأقرب من الماضي، ولا ينسى الماضي لأن يجد فيه فحولته، ورعونته، وفجاجته، وطاقته السلبية التي تبعده عن كل ما هو إيجابي.
الإنسان القديم وقع في الفخ الخطير، منذ أن تجاهل اللحظة الراهنة، وسبح في المحيط إلى مسافات لا متناهية، فغرق في الأنانية، لأنه لم يجد إلا نفسه هناك في الوحشة، فتوحش، وبين عشية وضحاها اختفى عن الوجود، صار خارج الوجود، لأن الحياة لا تتوافق إلا مع العشاق والمندمجين مع الآخر.
وكيف يندمج الإنسان مع الحياة، وهي راهنة وجديدة وهو لا يزال قديماً، ويحتفظ بموروثه العتيق من خوف من الآخر، أو غيرة، أو تفاخر، أو الاحتباس في أفران الأنانية.
لن يتخلص الإنسان القديم من تشرذمه، إلا إذا تحرر من عصابيته، وخرج من عنبر العلاج بالطب الشعبي إلى العلاج بالإدراك. إدراك ما تفعله الأنا هو الجدير بتخليصها، من علل أوهام الشخصية، والولوج في الفردانية السماوية.