بقلم : علي أبو الريش
عندما أشرف رمضان على الدخول في فناء وجداننا، شعرنا أن هناك كائنات ملائكية بدأت تجوس المكان وتحيطه باهتمام بالغ، فتبدأ في إعادة التأثيث، وتنظيف الأواني، وغسل البلاط الأرضي، والاعتناء بالصالات والغرف والعكوف على مسح المطابخ والبحث عن القدور والصحون والملاعق والسكاكين والشوك والاستغناء عن قديمها واستبدالها بالجديد اللامع والذي لم يزل يحمل رائحة المحلات.
في ليالي رمضان الليل مختلف لأنه يلقي على مسامعنا أصوات النساء الفرحات بعد نهار مكفهر مصفر مغبر، وكذلك الصغار هؤلاء وحدهم عالم غرائبي له صوره وخيالاته ومشاعره وسلوكياته، فالأطفال حتى الذين لم يدركهم سن الصوم، فهم يعيشون ساعات مزدهرة بالحبور، يقضون أوقاتاً زاهية، وترى في عيونهم لألأة النجوم، وعند شفاههم، رقصة أجنحة الطير، وهم ما بين الشجار واللعب والضحك يطوقون المكان بمهرجان احتفالي احتفائي ترى بأم عينيك شهر رمضان يتمشى في فناء المنزل ويتوقف كثيراً عند المطابخ، ويلتفت قليلاً ناحية الشاشات التلفزيونية، ثم يشيح مبتعداً، يتوسط الأسر ينظر إلى الوجوه، ويستدعي الذاكرة، يسحب خيطاً رفيعاً يأتي من الماضي البعيد.. فتبدأ تتذكر وتقفز إلى ذهنك وجوه بعيون تلمع بالبراءة والحب والإباء والنخوة وصبوة الإنسان النبيل.. تزدهر الذاكرة في كل يوم، وبخاصة الساعة ما قبل الإفطار، في هذه الدقائق، تتقافز الصور مثل أسماك بحرية صغيرة علقت في شباك صياد قاس.. تحاول أن تفسر هذا الحشر والنشر فلا تجد غير أنك أصبحت أسير هذه الذاكرة، وأنت من شدة الفرح تبكي وأنت من قوة البكاء تضحك وأشياء غامضة تداهمك ومشاهد وأحداث تباغتك، حتى تصبح أنت كأنك كتاب مفتوح منذ زمن، لكن أهمله قارئه، والآن جاء وقت تلاوة التفاصيل لعل في التلاقي والتساقي مع مشهد من المشاهد، تعيد النفس ترميم الجدران القديمة، وإعادة ترتيب الأشجار التي تداعت ظمأى، وتلوين الزوايا المعتمة باللون الأبيض.
كل هذا يحصل في شهر رمضان المبروك، لأنه شهر يقلب أوراقاً وأشواقاً وأحداقاً وأنساقاً، ولا يملك الإنسان غير أن يقف صاغراً ضارعاً أمام هذا الشهر الكريم، الشهر المختلف، وكل مختلف يثير النوازع ويحرك المياه الآسنة، ويخض أغصان الأشجار لأجل أن تستعيد الحياة خضرتها ويعيد الإنسان لباسه المنقط بالأحلام الوردية المخطط بأهداب الحرير الندي.. في رمضان كل شيء يصبح ملوناً بلون النساء النبيلات اللاتي يعجنَّ خبز الحياة.