بقلم : علي أبو الريش
المذهل هو أننا لولا النسيان لأصبحنا مجانين، أو امتلأنا بالأمراض، لأن النسيان يطوي سجل المثير من الأفكار السوداوية القاتلة، ولكن في نفس الوقت، فإن النسيان يملأ وعاءنا الذهني بكثير من الغبار، ما يجعلنا نعجز عن تذكر حقيقة وجودنا على هذه الأرض، فنمضي في الوجود كقطعان تائهة، ضيعت السرب، وأصبحنا نمارس حياتنا ونحن تحت غطاء الغيبوبة السميك، وكل ما نعيه هو مجرد أحلام يقظة، لا توصلنا إلا إلى منتصف الطرق، ولهذا قال الشاعر اليوناني وورد زوورث، «ولادتنا ما هي إلا غفلة ونسيان».
ونحن هكذا نضفر جدائل عمرنا بحزم متراكمة من الأفكار الفوضوية التي تؤدي في النهاية إلى الإفلاس، والحضارة البشرية، عانت من هذا التوعك في الوجدان، وخسرت كثيراً من إنجازاتها، نتيجة لهذا اللاوعي الذي خبأ جملة من مفردات تعبنا في معطف النسيان، وأخفى أشياء جميلة، مما جعل القبح يطفو على سطح الذاكرة مثل أسماك نافقة، تعبق بالرائحة الكريهة.
البشرية اليوم مطالبة بإعادة النظر في الكثير من أولوياتها، وترتيب أثاثها، وتنظيم محتوياتها، كي تستدعي ذلك الجمال المخبأ في الأعماق السحيقة، واسترجاع ما خسرته خلال مسيرتها الطويلة عبر قرون من العمل، والجهد.
ولكن كيف يحصل ذلك؟ لو استطاع كل فرد منا إجراء دراسة حالة ذاتية، وقلب الدفاتر، وفتح الأدراج، ورمى كل تالف من مدخراته الفكرية فإنه من الطبيعي، أن تبرز تلك الورود الجميلة، وتنثر عطرها، وسوف يشعر الإنسان بأهمية الحياة، وجمالها، وجلالها، وكمالها، وسوف يفهم الإنسان أن كل هذا الدخان المتصاعد من الذات ما هو إلا نتيجة لاحتراق أثاث قديم، وكذلك نتيجة لمعارك داخلية، تخوضها الذات مع اللاشعور الفردي، والجمعي، وإعادة النظر في كل هذا الصراع، تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وتعيد التوازن إلى الذات وتتخفف من أعباء الصراع، ومن التشققات التي حدثت نتيجة لتلك الحروب الطاحنة التي أنهكت، وهتكت، وأغرقت، وأحرقت، ومرغت كل ما هو جميل في أوحال التفجع، والآلام.
فلا يرى المرء ما يمر من أمامه من مبهرات، طالما وقع في مصيدة اللاوعي، لأنه الكائن المخاتل الذي يقودك خارج الفرح، ويدعوك إلى حفلة جنائزية من صنعه هو، ومن خياله السوداوي.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد