بقلم : علي أبو الريش
أن تفتح النافذة ليدخل الهواء الطلق، فذلك تسامح مع الطبيعة، وأن تفتح قلبك، وتؤثثه بسجادة من حرير، ليمشي غيرك فيه من دون تغضين جبين أو تعقيد حواجب، فذلك تسامح مع الآخر.
لكن كيف نستطيع أن نفعل ذلك؟ يقول روسو: «الأفكار المسبقة مفسدة للعقل». نحن بحاجة إلى التنقية، وإلى التصفية من النخالات والحثالات، والرواسب، نحن بحاجة إلى عقل ينسى كثيراً ويتذكر قليلاً. نحن بحاجة إلى قلب لا يحتفظ بالنفايات لمدد تتجاوز اللحظة.
نحن بحاجة إلى الروح، مثل جناح الطير، قبل أن يذهب إلى المحيط الآخر، ينفض الجناحين من الغبار ويطير. الذين يحلقون وفي عيونهم غب ونكب وغضب، يعانون كثيراً عدم الرؤية، وبالتالي يلقون بالأحكام جزافاً، ويقذفون الآخر بالرماد والرمد، حتى تصبح العلاقة مثل علاقة النار بالهشيم. لا نستطيع أن نصدر قراراً شخصياً في لحظة ما من التجلي ونقول إننا سوف نتسامح.. فالتراكم يحتاج إلى منفضة بحجم الأحلام الوردية وإلى موجة عارمة تغسل الشواطئ الملتاثة، في كل لحظة، كل ثانية، كل دقيقة، كل العمر. نحتاج إلى مرحلة تحرك الهواء الساكن، وتذيب الجليد، تقشع عن سطح القلب، نشارة أخشاب تالفة. نحتاج إلى كل هذا ونحن نؤسس لشخصية إنسانية، بارعة في صناعة العلاقات، مبدعة في تأليف المشاعر. نحتاج إلى كل هذا ونحن نبني عشاً فوق الشجرة، بعيداً عن تناول الأيدي المتلصصة، والأعين المتخصصة في صناعة الحقد وحياكة أثواب الكراهية.
هذه أمنيات لا تتم إلا بوجود أسرة واعية، متحررة من براثن الأنا الضخمة، متخلصة من البارانويا المميتة للذات، فالأسرة النواة التي حولها تدور كل الخلايا الإنسانية، وإذا كان الأب متسلطاً والأم خانعة أو العكس، فإن الأبناء ينشؤون تحت أسقف خيام مكشوفة. تتلقى الجراثيم من كل الجهات، فيكبر هؤلاء، إما متسلطين وإما خانعين. وإذا كان الآباء يسورون علاقاتهم بالأبناء، بالشتائم والسباب، والزعيق والنهيق، فإن البراعم تكبر على ضجيج داخل يؤدي إلى هم نفسي لا يقبل الرأي الآخر ولا تستجير إلا بالنار.
إذا كان الآباء متسيبين لا مبالين، فإنهم يصبون الزيت على أرض ملساء، فتنزلق أقدام الأبناء في هاويات سحيقات، لا يخرجون منها إلا مشوهين ملوثين، يعانون عاهات وإعاقات مزمنة لا جدوى من التفكير في إصلاحها، إذا كان الآباء، يعتبرون أنفسهم أنبياء، لا يخطئون ولا يزلون، فهذه الإشارات الضوئية الحمراء المباغتة تؤدي إلى صدمات نفسية عنيفة ما إن يكتشف الأبناء أن العصمة لله وحده وأنبيائه، إذا كان الآباء يعتقدون أن التربية، مقسومة ما بين العصا والعصيان، فإنهم يدفعون بالنفوس الغضة إلى رفض التجربة المحصورة بين خيارين، ما يضطرهم إلى الاندفاع خارج دائرة الخنوع والبحث عن خيار ثالث، وغالباً ما يكون التجمد عند نقطة الصفر والتثبيت عند مراحل طفولية مبكرة، سلبية، ناقصة التكوين، جاهزة لأن تكون لقمة سائغة للانحراف.