بقلم : علي أبو الريش
كان أحد الرهبان يقول عن نفسه: أنا الراهب الكبير الذي تهتز له الجهات الأربع، أنا العظيم الذي ينحني له الكبار والصغار، في يوم من الأيام فكّر هذا الراهب أن يزور صديقاً قديماً، يسكن في قرية مجاورة، فعبر النهر متجهاً إلى منزل صاحبه، وعندما وصل لم يجده، فاستشاط غضباً، وحنق، فأخذ قصاصة ورقية وكتب عليها عبارة (يا صديقي، أنا الراهب العظيم الذي تهتز له الجهات الأربع، كيف آتي إليك ولا أجدك؟)، ثم عاد إلى قريته خالي الوفاض مكتئباً. ولما رجع الصديق إلى بيته وجد قصاصة ورقية مكتوبة عليها تلك العبارة، ومذيّلة بتوقيع الراهب. أخذ القصاصة وكتب عليها كلمة طز، ثم ذهب إلى قرية الراهب، ولما وصل إلى بيت الراهب، علَّق القصاصة على باب البيت ثم عاد إلى منزله. وعند عودة الراهب إلى منزله شاهد الورقة، وقرأ كلمة طز، غضب غضباً شديداً، وأقسم أن يذهب إلى بيت الصديق ليوبّخه على فعلته المشينة. ولمّا واجه الصديق مستنكراً هذا التصرف
. قال له صديقه وهو يبتسم، إذا كانت كلمة واحدة هكذا ترعبك، فكيف تدعي العظمة؟ وكيف تقول إن الجهات الأربع تهتز لك؟ فأنت إذاً لا شيء، أنت فقط شخص مدّع، وكذاب، لبث الراهب ساهماً، متفاقماً، متراكماً، مثل قماشة قش.
هذا هو حال من يدّعي العظمة، وهذا هو حال من تستولي عليه أوهام الكبر، والتكبر، يظل صغيراً، وضئيلاً. مهما توهّم وتورّم وتضخّم وتفاقم، وتزاحم، لأن العظمة هي في صدق الإنسان مع نفسه، وقدرته على التصالح معها، وتحريرها من شوائب الخيالات المريضة، وتخليصها من أحلام اليقظة، لأنها ما هي إلا زبد تذروه رياح الحقيقة، ما هو إلا جفاء لا قيمة له، هذه هي السفاسف، التي وقعت فيها قطر، وهذه هي الحفر التي انزلقت فيها، وظنّت أنها تستحم في النهر الصافي. قال سقراط اعرف نفسك، ومن لا يعرف نفسه كمن يمشي في الظلام، إنه يتعثر، ويتبعثر، ويتخثر، ويتدهور، ويتفطّر ويضيع في غياهب التيه. هكذا هي قطر، أرادت أن تكون كبيرة، فانتهت في التفاصيل المريبة، فمادت وتمادت، ومارت، وبارت بضاعتها الفاسدة، لأن العالم أصبح أضيق من ثقب إبرة، فأين ستمر خيوط قطر المهترئة، فالكذب مثل الفقاعة، يكبر ويكبر ثم ينفجر ولا يرى إلا سطح الماء الصافي. الكذب ناقة عرجاء، مهما بلغت من فجاجة إلا أن صحراء الحقيقة أبلغ فصاحة في كشف الكذب. الحقيقة وحدها كتاب لا يقرأ بالمقلوب.
فمتى تتضح الحقيقة أمام من عصب العينين، وسار في الطريق، بلا بصر ولا بصيرة؟