بقلم : علي أبو الريش
كن في الحيرة، الحقيقة تكمن هنا، في داخلك، أي أنك أنت الحقيقة، وفي الخارج وهم ويقين مزيف. المزيفون هم الذين أيقنوا، ومن أيقنوا توقفوا عن الحركة، ومن توقفوا عن الحركة، ذهبوا في صمت الأبدية.
ما يحيق بالعالم من دمار، وما أصاب الحضارة البشرية من ضمور، هو هذا اليقين، هو هذا الوهم الذي صعد بالإنسان إلى النجوم وبدت الأرض مجرد صخرة ضخمة، وعائقة للوجود، فحق تفتيتها. ما يحدث أن الإنسان تشبث باليقين قبل أن يصل إليه، مما حدا به أن يتوقف عن التفكير. هذه الخدعة البصرية التي وقع فيها الفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت، عندما أوصله يقينه الوهمي أنه موجود لأنه يفكر، فقد سبق التفكير الوجود عند هذا الفيلسوف، بينما الحقيقة تقول إن الوجود سابق الفكرة.
نحن موجودون قبل التفكير، وإلا كيف يفكر من هو غير موجود. فالإنسان راعي الوجود، كما ذكر مارتن هايدجر، وإذا كنا نحن محكومون بالحرية كما قال سارتر، فإذاً الحرية تتطلب الحيرة قبل اليقين، الحيرة سابقة لليقين، ولكن المزيفين اختصروا الطريق، وأمسكوا بتلابيب اليقين، كي لا يرهقوا أنفسهم، ولا يحركوا سواكن العقل.
ما يحدث اليوم من تزييف للدين والحياة، هو هذا اليقين، هي هذه القفزة لحرق المراحل. المتطرف والعصابي والأحمق، هو الذاهب إلى اليقين بقارب الوهم، الناظر إلى القصاصة الورقية، ويقول هذه طائرة نفاثة سوف تنقلني إلى أقصى القارات. الحيرة تجعلك تفكر، واليقين يجمدك لتدخل في المستنقع، وتغزوك الحشرات والنفايات، وتبقى أنت، المكب المفتوح على حثالة الوجود.
كل متطرف ومتعصب ومعتصم بحبل اليقين، لا يرى العالم إلا من ثقب إبرة، ومن خلال الثقب لا يرى بشراً، وإنما يرى خيوطاً معقدة، لا يفك عقدتها إلا بالسكين. يجب أن نكون خارج اليقين، لنرى الحقيقة، الحقيقة لا تكمن في قلب اليقين، ولو كان الأمر كذلك، لما كنا بحاجة إلى العقل، فوظيفة هذا العقل هي التوقف عن اعتبار اليقين حقيقة.
المرضى النفسيون، وبالذات الفصاميين، يرون أشباحاً وصوراً وهمية، ويتحدثون بيقين، إنها الحقيقة، ولو اقتنعنا أن الجنون، ما هو إلا استمرار الحلم لدى المجانين، لفهمنا أن اليقين ما هو إلا زيف صنعته الأنا، ليقتنع الإنسان أنه العقل المدبر لشؤون الكون، وبالتالي يصبح اليقين ملكية بشرية، ولا حاجة للعقل، ولا داعي للحيرة.
ولو صحيح أن الإنسان يملك اليقين، فلماذا يفجر الإرهابي نفسه ويقتل الآخر. فعندما تنتحر، فأنت يائس، ولا يتفق اليأس مع اليقين، فمن يملك اليقين، يملك الحقيقة، ومن يملك الحقيقة يملك الفرح، ومن يملك الفرح، يدخل مدينة الحياة، والحياة غير الموت. اليقينيون أناس محرومون من رؤية الحقيقة، ومن لا يرى الحقيقة، لا يرى الفكرة المؤدية إلى الحقيقة، ومن لا يرى الفكرة المؤدية إلى الحقيقة، يقف في منتصف الطريق حتى يحل عليه الظلام وينام في عرائه، كأنه الطائر الذي فقد سربه.