بقلم : علي أبو الريش
عندما تسمع أسواق اليوم وما يدور فيها وكواليسها من رحى تطحن قيم الناس ومعانيهم وعاداتهم وتقاليدهم، تشعر برجفة تهز كيانك وتدعوك للالتفات إلى الوراء والبحث عن شيء قد مات في أفئدة الناس.
سوق الماضي، لم يكن للبيع والشراء فحسب، بل كان يشكل مجتمعاً تقوم أواصره على التضامن والتكافل وحل معضلات الناس، وما يشوب حياتهم من منغصات. الماضي الذي جاء من أتون الصحراء النبيلة والبحر النجيب أسس منظومة اجتماعية لم يستطع علماء النفس والاجتماع أن يأتوا بمثلها، لأنه ماض مبني على أسس الوجدان الصافي والمشاعر المزدهرة بالحب
. ذاك الماضي، كان فيه السوق التجاري يضم التاجر والفقير يجمعهم كلام الوفاء، لم تكن الأوراق الثبوتية والتواقيع حاضرة، بل كان يحضر الوفاء بقيمة الكلمة وكان العهد موصولاً بشفة لا تنطق إلا بشرف المهنة، ونبل العلاقة بين طرفين يلفهم الود وصلة القربى ووصل العروق الممتدة من شغاف التاريخ، إلى ضفاف الجغرافيا.
في الماضي، كان للسوق التجاري رائحة الكف المعروقة التي إذا امتدت لا ترتد، وإذا مدت لا تبخل في العطاء. يقولون كلام رجال، وكلام الرجال لا يرد، لذلك لم يدخل رجل بشوارب سجناً لعدم سداد دين، لأن الدين كان كلمة مثل حد السيف وللسيف تاريخ بقطع أوصال الكذب، والافتراء، اليوم لا كلمة تصعد إلى السماء إلا وهبطت إلى الأرض مثل نيزك محطم إلى أشلاء، اليوم الكلمات تسقط مثل نثار الرمل، مثل الغبار ومرايا العصر مكنوسة بالنفايات وبقايا ما بعثرته أزمنة المشاعر الجافة، والإحساس المتيبس.
في الإمارات ماض مزخرف بجمال الخصال ونبل الأواصر، لو علم الجيل الجديد بما لماضينا من بريق أكثر إشعاعاً من وجه الشمس، وأكثر نوراً من ضوء القمر، لنصبوا التماثيل لأجداد صنعوا التاريخ من حرير الحب، وزخرفوا الحياة بالتآلف والتضامن والتكاتف، وصارت فعالهم كتباً تستحق القراءة والتأمل والحفظ عن ظهر قلب.
لو علم الجديد، عن هذا المنجز التاريخي الذي يجب أن نتباهى فيه بين الأمم ونفتخر ونعتز، لأنه تاريخنا وكتابنا المقدس وحلم من رتبوا حياتنا وشذبوا مشاعرنا وهذبوا أخلاقنا. كل ذلك بني على أسس قيم السوق التجاري، الذي كان سوقنا الأخلاقي الذي منه وفيه تتم تنقية المشاعر، وتصفية القلوب. أتمنى أن تدرس تلك الأخلاق، وأن نعلم أبناءنا كيف كان الآباء، تعلو كلمتهم على كل المواثيق والعهود المكتوبة ورقياً، والمنسوخة من وجدان الأنقياء، والمخطوطة بحبر القلوب، التي لا تنبض إلا بالصدق.
أتمنى أن نعلم أبناءنا هذه الأقانيم الثقافية، ونجعل لها الأسبقية، على الكيمياء، والفيزياء لأنها هي التي ستجعل للجاذبية الأرضية معنى، وللمختبرات قيمة.