بقلم - علي أبو الريش
من شرفة تطل على بحيرة جنيف، تختزل الزمان، ويبدو المكان من دائرة صغيرة تدور في وسطها كائنات الله، في حفل بهيج، والعالم الذي نسمع عنه في النشرات الإخبارية، وما له وما عليه من غبار الانفعالات العاطفية، وسعار الأفكار، كل ذلك يختفي، حيث لا يطفو على سطح البحيرة الساكنة غير بوح الطير، وهشهشة الأشجار العملاقة، تسير الحفل بأناة وهدوء، والأشياء من حولك باردة ما عدا مشاعر النساء، تتوهج بدخان ينبعث من ثغور أشبه بأكمام الزهر.
وأهداب وعيك تنسدل مثل خيوط الشمس على سطح جليدي، فتبدو الأشياء من حولك ترتع بلمعان مهيب، يبعث في روح المكان خلابة الزمن الزهري، والمكان مكلل بزهو ورفاهية البذخ الطبيعي، وعندما تلتفت إلى أجنحة الطير المبللة بالبرودة، وأنت تختبئ في معطفك مثل شرنقة الفراشة، ترى البياض المخصب بنشوة البراءة يخطف من حولك بعض ذكريات كانت تشتعل على سواحل الخليج، مع الفارق في اتساع رقعة الهواء الصقيعي.
رجال ونساء طعنوا في السن، ولكن رائحة الطفولة لم تزل عالقة في ثيابهم الشتوية، يلتئمون حول أجساد لم يبق منها غير الجلد الأبيض، يطفر من مسامها عبق طفولي نبيل، وكلاب صغيرة أشبه بالغزلان الوليدة تحوم من حولهم، وتشتم رائحة الأعشاب، وتلوب بأذيال مثل مكانس رهيفة، ثم تنضم إلى ركب الماشين بخطوات تدب على الأرض المغسولة بالمطر، وكأنها تسبح على الماء.
الصباح عند البحيرة، ينفض رداءه من غبار الليل، ثم يرتدي معطفه الفضي، والغيمة لم تزل تخيم على رؤوس الأشهاد، وتسفر شيئاً ما عن زيارة مرتقبة لمطر غزير، هكذا تبدو، وهكذا أبلغني رجل الاستقبال الجميل في فندق ريفاج بلاس، ولكن الغيمة لم تصدق، وخاب تخمين الرجل الجميل، ولكن بعد مغادرة النهار، وبروز قماشة المساء الرمادية، عادت الغيمة لتبشر بالمطر، وارتفعت تغاريد الطير متهللة، وكأنها تحمل رسالة ما شفهية، للذين يتأبطون الأذرع، وعيونهم باتجاه السماء، فلعله ينزل المطر الذي لا يتوخون منه سعادتهم، على خلاف ما كنت أشعر به وأتمناه.
جاء الليل ولم يأتِ المطر، ولكن البرد القارس كان يفتل جدائل حضوره، ليقول للناس أنا هنا، والجنرال ثلج يخيط قماشته البيضاء في المكان القريب من البحيرة، أي على بعد كيلو مترات فقط، في انترلا كن تلك المنطقة عالية الأكتاف، زاهية مثل قلوب أهلها المبتسمين دائماً.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن صحيفة الأتحاد