بقلم -علي ابو الريش
في رمضان في ذلك الزمان، كانت الأزقة ترفل بالأطباق، وتزدهر بالأشواق، وتضاء بالأحداق، وتمشي الابتسامات الطفولية على رمل الحياة مشرقة، متألقة، متدفقة كأنها موجات السواحل، مرونقة كأنها نعيم المناهل، والشمس تطل من نافذة الغسق كطفلة بفستان العفوية تغدق الجدران المتعانقة بحميمية الفطرة الأزلية، والصغار يهتفون بنداءات المغيب المهيب، ويملؤون وقت الأصيل بأناشيد أشبه بزفات العصافير وهي ذاهبة إلى مثوى الهدوء والسكينة، وفي البيوت، ومن خلف ما يعرشون تخيم نساء الألفة والكد والتعب حول تنانير المعيشة، وعرق النفخ، والطبخ يفوح كأنه عطر بتلات الزهر المتفتح في أوان الربيع.
في ذلك الزمان كان رمضان يتنأنأ بخطوات الأبدية، ويرسم لوحة تشكيلية على الوجوه والمعالم وعلى قرص الشمس، ومنارات بيوت الله كان الزمن في ساعات ما قبل اختباء الشمس تحت ملاءة الوجود، يصيغ أحلام الأطفال على ورقة المشاعر بعبقرية الخلاق العليم، ويمضي الفرح مثل زعانف أسماك تهفهف في عمق المحيط، عطر الهريس يعبق الأمكنة، وشذا خبر الثريد يعم، ويضم ويفعم مسام الأجساد الهيفاء، ويسكن في القلوب إيمان العلاقة الودية ما بين القلب والقلب، وكل يهفو إلى زيارات مؤجلة حتى تمتلئ الأحشاء بما تاقت إليه في نهارات العطش، وحرقة الانتظار، لما يبلل الريق ويخصب الوجدان بنبضة تسري في الأجساد كأنها الأكسير، كأنها السحر، كأنها رمق الحياة.
في رمضان ذلك الزمان كان الصوم رحلة مبجلة، للقاء محتمل لا يشوبه غياب، الرفاق، ولا جفول الأعناق، كان شيء من زمن مبهر، ومثمر، بالزيارات، ولقاء الأحبة، وكان للمجالس بوح الود، وفوح السد، ومدارات مدن لا تغيب عنها بهجة الليالي الملاح، وقرآن الفجر كان مشهوداً، وقهوة النساء مقندة بهيل الوجوه الباسمة، وزعفران الحكايات المسلية، والبخور كان من مداخن العارفات بسنن الشهر الفضيل، وأعرافه، وقيمه، وسجايا الناس الطيبين، وثناياهم، وطواياهم، وكل ما غرفته الذاكرة من معين الإرث الطيب، وتاريخه المنمق بخرز الذين يمسكون بالأحلام كما تفعل الفراشات، وهي تلثم شفة الوردة، كما تفعل النحلات، وهي تقبل أحلام العسل.
في ذلك الزمان، لكن رمضان ضيف بلا ضيافة، بل كان في حزمته، بل في خرج نوقه دهشة اللقاء، كما هي لوعة الفراق، كما هي أسئلة السفر، كان يجيء، ومعه تتجدد قمصان الفرح ويتحدث الطير عن سر الأعشاش التي تأوي ذوي القلوب الرحيمة، وأصحاب الأحلام الوردية، حتى أطباق المساء، وهي تدور بين النواصي والأيدي كان لها شكلها، وصورتها الأسطورية المذهلة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد