علي أبو الريش
عندما يُغّيب الموت شاعراً، فإنما هو يسطو على الشعر ويربك قافيته ويخل في الوزن ليشيع حزناً فظيعاً في القصيدة.. الفيتوري صاحب ديوان «أغاني أفريقيا» يذهب بعيداً بعد الموت، كما ذهب في الشعر أبعد مما تصوره أعداؤه، ومن سلبوا منه حرية الكتابة والتنفس، شاعر غادر السودان إلى ليبيا، تاركاً جواز سفره في حقيبة الشعر، من أختام الخروج والدخول، لأنه خرج في الأساس من قائمة المواطن الذي يسأل فيجيب بعد فقد القدرة على الإجابة، كعظم الأسئلة التي سكنت قصيدة، ولمدى سعة علامة الاستفهام التي أيقظت حالته الشعرية، الفيتوري يرحل ومعه ترحل صرخات السوداني الذي لم يزل يستنكر كل هذا التأويل، وكل هذه الخطابات المشروخة التي لم تعد تلون قطن النيل إلا بلون واحد وربما يكون بلا لون ولا جدوى.. الفيتوري يرحل وهناك في معطف القصيدة محفظة لم تزل مغلقة الأسرار فيها أنها مع السفر الطويل ما عادت تفيد في كشف الأسرار لأن الشاعر قال ما فاض به فوه، وقال ما لم تقله رابعة العدوية في أقصى حالات تجلياتها وعرفانيتها ونيرقانيتها.
الفيتوري يرحل وفي الطريق إلى الملاذ الأخير كان تحت القماشة البيضاء، جسد يئن مشتاقاً إلى الروح التي جملت العالم وطرزت قميصه بأجمل الكلمات وأبهى العبادات.. الفيتوري يرحل ليتترك في البيت أرملة في ضاحية «سيدي لعبادي» لم تكمل بعد قراءة القصيدة حيث الدمعة بللت الحبر فساح يطهر نيراناً وأحزاناً.
الفيتوري يرحل تاركاً في مقره في المغرب بعض مشاعره التي لم تزل تحن إلى أم درمان، تحن إلى السودان، تحن إلى الإنسان في كل مكان كون القصيدة مثل الغيمة في السماء بلا عنوان.. الفيتوري يرحل متأبطاً رسالته التي قرأها البعض ولم يقرأها لأنها كانت مطوية شمالاً بجانب القلب وكان قلبه من شديد الرهافة ذاب وريده قبل أن يقبض على آخر كلمة كان يريد الفيتوري أن يستكمل بها رسالته.. أقعده المرض ورفعه الشعر إلى قامة الشعراء الفطاحل المحدثين، أقعده النفي وعلا شأنه بالتزامه الأخلاقي والإنساني وبما لديه من كثافة في تسديد المعنى وبما لديه من سعة في تفصيل القصيدة وحياكة قميصها بإتقان شاعر يعرف أن الكلمة سم الخياط.