علي ابو الريش
في سد مبزرة التاريخي، يقف التاريخ كطائر عملاق، أسطوري، قدماه محفوران في التراب، وعيناه معلقتان في السماء. هذا في السد، الطير في المساء، يغرق في سكينة المكان، أجنحته مثل مراوح صغيرة تهفهف على التراب، والتغاريد، سيمفونية كونية، قادمة من أصول وفصول، وبهاء الله، يطوق الحجر والشجر، قلادة أبدية زاخرة بالشجن، وفنون ما أنتجته الطبيعة.. عند شفة الجدار الطيني، يطل قلم الذاكرة، حبره من صليل الأيام، وحروفه من صهيل الخيل التي مرت من هنا، وحراس المكان جاؤوا من قديم الزمان، يروون بطولات نحتت في صدر الرمل ما جاش في خاطر العشاق، من أشواق وما باحت به الأحداق، من شغف ومن لهف ومن كلف، وفي السكون يبدو الضجيج، هسهسة الصخر، وهمس الأغوار، يحكي عن قصص وروايات ووشايات وغوايات وروايات، وأشعار يقرضها الطير بحكمة الفطرة المبجلة.. هنا في السد، أحلام تتوارى خلف شرشف الماضي، وحوادث الدهر، تبدو مغمضة العينين، لكنها تفتح نافذة على الفضاء، بفطنة العبقرية الفذة، وسحنة السواعد التي نقشت على الرمل أخاديد الأحلام الزاهية.. هنا عند السد، شجيرات تتلوا آيات الحكمة الإلهية، وتتهجى أسماء الذين مروا من هنا والذين سقوا الجذور من عرق، ومن حدق، ومن ألق، ومن أرق، ومن دفق.
وأنت الواقف على صخرة من نوايا التاريخ ومن خلايا أزمنة تألقت بالحنين، يحيطك المكان، بذراع الطين مثل شرايين الجسد، يسقيك الحنين، يرويك من سجايا الأولين، يعطيك من نفحات، أشبه ببخور امرأة، غارقة بالحب، تزف إليك الأخبار والأسرار، عن أطوار نسجت حريرها في المكان، على قماشة الرمل الذهبي، وعلى قمة حجر عملاق، يقف الطير، يرقب عن عمد، أصوات الصغار، الذين انسلوا بين تجاعيد الأرض، باحثين عن كلمة الله في المكان المهيب.. هنا عند السد، تجد التفاصيل على جبين الرمل، تجد النقطة والفاصلة آخر الجملة التاريخية، تجد مخمل التاريخ، معبقاً برائحة الأقدام التي مرت هنا، وعطر اللواتي، عبأن صفائح الحياة، بعذب الماء، وعذوبة البقاء.
هنا الأشياء، صور ومشاهد، تمضي بالقلب نحو غايات، وتحرض الروح لأن تمارس حق الوجود، بصرامة الأولياء والصالحين.. المكان أشبه، بقبو القديس، والطير في عزلته يرتل الحكمة، بفطرة أزلية، ما خطرت على بال بشر، كل الأشياء هنا تغرق لحن الخلود، الطير والشجر والحجر، وفي غياب البشر تبدو التلاوة حميمية، جياشة تتدفق كأنها الدم في الشريان، عندما يكون القلب، وادياً ذي زرع أخضر.