إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان

إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان!

إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان!

 صوت الإمارات -

إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان

بقلم: عثمان ميرغني

 

ما كان للتقرير الصادر قبل أيام عن بعثة تقصي الحقائق التابعة لمجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة بشأن الوضع في السودان، أن يثير كل هذه الضجة لو أنه اقتصر على توثيق الانتهاكات والدعوة لمحاسبة مرتكبيها. لكن التقرير وسّع في توصياته وخاض في دعوة ملغومة لإرسال قوات دولية إلى السودان، تحت شعار حماية المدنيين، ما فتح باب الجدل واسعاً، وعرّض اللجنة لاتهامات بتجاوز صلاحياتها، وتسييس مهمتها، بل وضعها في دائرة التجاذبات والصراعات حول أزمة الحرب السودانية.

حتى قبل أن تقحم البعثة نفسها في هذا الموضوع، فإنه كان مثار أخذ وردّ واسعين، منذ أن تبنته بعض أطراف القوى السياسية والمدنية في تنسيقية «تقدم» ورفضته بشدة الحكومة السودانية، لذلك لم يكن غريباً أن تصبّ توصيات البعثة مزيداً من الزيت على نيران الجدل، وأن تجد نفسها في دائرة الانتقادات والاتهامات.

من ناحية شخصية، فإنني لا أفهم أبداً استعداد بعض الناس للتفريط في سيادة أوطانهم باستدعاء التدخلات الأجنبية. هناك فرق كبير بين دعم مهمة تقصي الحقائق عن الانتهاكات التي ارتكبت، وبين استدعاء التدخل بقوات دولية - أفريقية. توثيق الانتهاكات مطلوب، وكذلك مبدأ المحاسبة عليها، أما فتح الباب للتدخلات الخارجية فسوف يضيف إلى التعقيدات والمخاطر، ناهيك عما فيه من تفريط في سيادة البلد.

من حق الحكومة السودانية أن تنظر للدعوة لإرسال قوة دولية على أنها «مسيسة»، وأن المعيار في تطبيق مثل هذا الأمر تحكمه دائماً مصالح وحسابات سياسية. فضمن هذا الإطار يمكن للمرء أن يسأل: لماذا لا ترسل مثل هذه القوة لحماية المدنيين في غزة مثلاً؟ ولماذا لم نرَ تدخلاً دولياً وتحركات لإرسال قوات دولية إلى إثيوبيا إبان حرب التيغراي؟

هناك أيضاً تعقيدات كثيرة في الوضع الراهن في السودان، تجعل محاولة إرسال قوة دولية محفوفة بالصعاب والمخاطر. فالحرب الراهنة، خلافاً لحرب دارفور السابقة، منتشرة في مساحات شاسعة ومتباعدة، ما يؤشر إلى عقبات لوجيستية كبيرة، ويعني إقحام قوات ضخمة، وهو أمر قد لا يتيسر، في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة. أضف إلى ذلك أن الحكومة السودانية رافضة تماماً للأمر، ما يعني مزيداً من التعقيدات لنشر مثل هذه القوات. صحيح أن هناك سابقة إرسال قوات أممية - أفريقية إلى دارفور في عام 2007، على الرغم من رفض ومعارضة نظام البشير، لكن الظروف وقتها كانت مختلفة، والسودان كان تحت طائلة البند السابع. اليوم يصعب تمرير قرار بإرسال قوات دولية في مجلس الأمن مع التوقعات بمعارضة روسيا والصين له، في ظل الصراع بينهما وبين الغرب، وعدم رغبتهما في ترسيخ سوابق جديدة بالتدخل العسكري الدولي، إذ تنظر بكين بعين الريبة إلى مواقف الغرب إزاء تايوان، بينما روسيا منهمكة في صراع كبير مع الغرب في أوكرانيا.

من ناحية أخرى، فإنني أشكك أن تكون الدول الغربية ذاتها راغبة في الانخراط بشكل أوسع في الأزمة السودانية، بما يصل حد المشاركة بإرسال أي قوات إلى السودان. فهذه الدول منكفئة على أزماتها ومشاغلها الداخلية، إضافة إلى أولوياتها الأخرى في حربي أوكرانيا وغزة.

لجنة تقصي الحقائق تبنت في توصياتها موقفاً جدلياً آخر بدعوتها لتوسيع نطاق قرار مجلس الأمن بحظر السلاح في دارفور، الذي لم يطبق بجدية أصلاً، حيث يشمل اليوم جميع الأطراف، بمعنى الجيش و«الدعم السريع». هذه الدعوة ملغومة، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال مساواة الجيش السوداني ومشروعيته بـ«قوات الدعم السريع» التي تمردت، لا على الجيش الذي كانت تعمل تحت رايته فحسب، بل على البلد كله، بعد أن اختارت طريق التدمير للمؤسسات والبنى التحتية والمصانع ووسائل الإنتاج الزراعي، ونهبت ودمرت البنوك والمتاجر والجامعات والمستشفيات والمتاحف والأرشيف والوثائق الرسمية، واستهدفت المواطن باستباحة دوره ونهب ممتلكاته وتشريده وقتله، والتعدي على حرائره بجرائم الاغتصاب الموثقة على نطاق واسع. وفي هذه الظروف، فإن أي محاولة لإضعاف الجيش ستكون بالضرورة ضد مفهوم حماية المدنيين، لأن المواطنين ينزحون من أي منطقة يدخلها «الدعم السريع» ويلجأون إلى مناطق سيطرة الجيش بحثاً عن الحماية والأمان، وإذا سئل هؤلاء عمن يفضلون أن توقف إمدادات السلاح إليه، فإن الإجابة ستكون واضحة بالتأكيد.

إن أفضل طريقة لحماية المدنيين هي وقف الحرب، وهو ما يمكن أن يحدث لو أوقفت بعض الدول والأطراف تدخلاتها للتأجيج وإرسال شحنات السلاح إلى «قوات الدعم السريع». أما الدعوات لمزيد من التدخلات وإرسال قوات، بما من شأنه ترسيخ سيطرة «قوات الدعم السريع» على مناطق وجودها الحالية، فإنها لن تزيد الأمور إلا تعقيداً، وتضيف إلى المخاطر المحدقة بالسودان.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان إرسال قوات دولية ليس حلاً للسودان



GMT 00:51 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

صواريخ زيلينسكي وحافة الفوضى العالمية

GMT 00:50 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

الشباب والهجرة

GMT 00:50 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

فلاسفة ليبراليون ينتقدون الليبرالية

GMT 00:49 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

كامالا أفضل!

GMT 00:48 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

ألطاف ترومان

GMT 00:47 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

الحقّ الفلسطيني وحياة القادة وموتهم!

GMT 00:47 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

نكسة لبنان الرقمية

GMT 00:46 2024 الخميس ,19 أيلول / سبتمبر

وسواس العظمة يفسد الناس

GMT 20:09 2019 الأحد ,20 كانون الثاني / يناير

السنغال واحدة مِن أفضل الوجهات السياحية لعام 2019

GMT 13:40 2018 الإثنين ,22 تشرين الأول / أكتوبر

مريم المهيري تستعرض جهود تحقيق الاكتفاء الغذائي في الدولة

GMT 19:40 2018 الخميس ,27 أيلول / سبتمبر

"اهدى يا مدام" قصة جديدة من مسلسل "نصيبى وقسمتك 2"

GMT 05:47 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

"كهرباء القدس" تواصل تطوير خدمات الكهرباء العصرية

GMT 07:07 2014 الأحد ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

الجامعة الإسلامية تشارك في معرض اسطنبول الدولي للكتاب

GMT 04:37 2015 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

معرض لتراث سورية في مخيم الزعتري

GMT 08:58 2018 الخميس ,26 إبريل / نيسان

رباعية دفع فاخرة جديدة من "بي إم دبليو"

GMT 02:44 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

الفنان حسن الرداد في "برنامج معكم" مع منى الشاذلي الجمعة

GMT 16:06 2014 الثلاثاء ,30 أيلول / سبتمبر

اللون البني لعاشقات الإطلالة المميزة في شتاء 2015

GMT 21:46 2013 الثلاثاء ,18 حزيران / يونيو

شباب حوامل لتوعية المراهقات الأميركيات

GMT 12:18 2017 الأحد ,08 تشرين الأول / أكتوبر

عبير صبري تُعلن عن تفاصيل دورها في مسلسل "الحب الحرام"

GMT 11:43 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

مغسلة توحي بالملوكية والرقي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates