بقلم: دكتور زاهي حواس
كان الأطفال فى الحضارات القديمة معرضين لمخاطر كثيرة تسببت فى رفع معدل الوفيات بينهم؛ خاصة فى الأسابيع الأولى من مولدهم؛ منها ما يعود إلى التلوث والنزلات المعوية؛ وكذلك التشوهات. ولدينا تماثيل لأقزام من المصريين مثل: «سنب» و«خنوم حتب» و«برنى عنخو».
كان المصرى القديم يرى فى الصرخة الأولى للمولود دليلًا على ما هو مكتوب له من الحياة. وقد استُخدمت التعاويذ السحرية والتمائم لحماية الوليد تشبهًا بـ«حورس»، ابن «إيزيس»، ومنها: «ذراعاى حول هذا الطفل ذراعا إيزيس حوله كما وضعت ذراعها حول ابنها حورس، أنت حورس.. لقد استيقظت مثل حورس، وطردت المرض بعيدًا، حيث كان الألم فى أعضائك».
وهناك تعاويذ أخرى لطرد الأرواح الشريرة والأمراض كانت تُطبع على التمائم، ثم تُنظم فى عقد يُوضع حول عنق الطفل لحمايته من العين الشريرة (الحسد). ومن هذه التمائم ما يقتضى وضع ٤١ خرزة، منها واحدة من ذهب، إلى جانب قطعة من العقيق الأحمر عليها نقش يمثل تمساحًا ويدًا بشرية، فإذا ما تُليت عليها التعاويذ وُضعت حول عنق الطفل. وكان من علل المرض ما يستوجب إخراجه من الجسم بتلاوة الرقية!، ومنها: «اخرج أيها الزائر من دون كلام!.. لا يعرف لماذا جئت هنا؟، هل لتقبل الطفل؟، أنا أمنعك من فعل ذلك. هل أتيت فى أذى له؟، أنا أمنعك من ذلك. هل أتيت لتأخذه بعيدًا عنى؟، أنا أمنعك». ومازالت هذه التعاويذ متداولة فى الريف المصرى. ومما كان يُتخذ لحماية الطفل إعداد جرعة من أعشاب طبية وثوم وعسل ومن أحشاء الأسماك وروث البهائم وكذلك من سمك الفرخ، وهو نوع من السمك النهرى. ولا تزال بعض هذه الوصفات موجودة فى الريف المصرى. وفى عصر الدولة الوسطى كانت هناك عصا سحرية من عظام فرس النهر تُزين بمناظر تمثل ألهة الحماية ورموزها، إلى جانب أشكال حيوانات خرافية وأرواح شريرة لدفع الأذى عن المولود. وكانت الإلهة تاورت والإله بس غالبًا ما يظهران مع رموز الحماية، مثل عين أودجات وتميمة سا أو علامة الحياة عنخ، فضلًا عن بعد العصا السحرية التى تحمل نقوشًا تحدد نوع الحماية مثل الحماية فى الليل، والحماية طوال النهار، أو لقطع رأس العدو الذى يدخل حجرة الطفل ليناله بسوء. ومع كل هذه التحوطات، كانت نسبة الوفيات بين الأطفال عالية جدًّا، خاصة فى الأيام الأولى من الولادة، فإذا مات طفل حديث الولادة دُفن غالبًا تحت أرضية المنزل، ملفوفًا فى قطعة من قماش، أو فى آنية فخارية كبيرة. ومن أغرب دفنات الأطفال ما عثر عليه عالِم الآثار الألمانى، هرمان يونكر، فى موقع مرمدة بنى سلامة، وكذلك الدفنات التى كشفت عنها فى نفس الموقع عام ١٩٧٧، حيث تم دفن الأطفال إلى جوار أمهاتهم قرب المنازل، ولم يُعثر على دفنات للرجال، فإذا كان موت الأم والطفل فى وقت واحد أثناء الولادة دُفنا معًا. وقد عُثر فى مقبرة توت عنخ آمون على مومياوى طفلتين يُعتقد أنهما ماتتا أثناء الولادة. وكان الطفل المتوفى يُزود بالتمائم والعقاقير التى توفر له الحماية وتؤمن طريقه إلى العالم الآخر، فضلًا عن تزويده بالطعام وبعض قطع الدمى أحيانًا. وكانت الأسر الثرية تحرص على تحنيط أجساد أطفالها، وأداء كافة الشعائر التى تضمن وصولهم إلى عالم الموتى. وهناك لوحة تذكارية من العصر المتأخر لذكرى وفاة طفلة، عليها عبارات: «هنا ما وقع على مَن كانت طفلة صغيرة بلا خطايا.. أركض فى الوادى، فتاة صغيرة ظمآنة، والماء بجوارى، أُخذت بعيدًا عن الطفولة مبكرًا جدًّا، أو بُعدت عن منزلى ومازلت طفلة قبل أن أنمو فيه، يغمرنى الكلام وذعر الأطفال، بينما كان ثدى أمى فى فمى، الأرواح الحارسة فى هذا المكان تعوق أى شخص عن الوصول إليه!. صغيرة أنا جدًّا على البقاء وحدى، قلبى يسعد برؤية قوم كثيرين، كنت واحدة تحب المرح، يا ملك الآلهة، سيد الأبدية، يا مَن هو أبوالبشر أجمعين أعطنى الخبز اللين والتمور والماء.. أنا فتاة صغيرة بلا عيب أو خطأ».
قدرت الرضاعة فى مصر القديمة بحوالى ثلاث سنين بما يوفر للطفل المناعة والصحة، ويتيح تنظيم الأسرة وتأخير الحمل حتى يحظى المولود بالرعاية والاهتمام. ومن وسائل إدرار اللبن تدليك ظهر الأم بزيت غُليت فيه زعنفة سمكة أو أن تأكل الأم خبز الشعير المخلوط بنبات الخشخاش جالسة القرفصاء. وكانت التهابات الثدى تعالج بدهان من الطلامين أو كربونات الزنك وروث الذباب. وجدير بالذكر العثور على آنية من فخار كهيئة امرأة راكعة تُرضع طفلها تقبض على أحد ثدييها. وربما كانت تميمة لإدرار اللبن أو لعلها آنية لحفظ لبن الأم بالفعل. أو لعلها استُخدمت فى بعض الأغراض الطبية. ومن الوصفات الطبية ما كان يدخلها لبن أم لطفل ذكر!، وكانت علاجًا فعالًا لنزلات البرد عند الأطفال، فضلًا عن علاج الضعف والأرق.
عُهد برعاية الأطفال عادة إلى المربيات، فى حين عُهد إلى الرجال بتعليمهم وحراستهم فى السن المناسبة. أما مَن كانت تعجز أمه عن إرضاعه فكان يُعهد به إلى مرضعة تحمل لقب «وت»، وكانت عادة أمًّا قد ولدت حديثًا، وعندها القدرة على إرضاع طفلين فى آن واحد. وكانت مرضعة ابن الملك فى الدولة الحديثة يتم اختيارها من أسرة عريقة، وتُلقب بمرضعة الأمير، فإذا ما صار ملكًا حملت لقب «مرضعة الملك». وبالتالى تتمتع بمكانة عالية فى المجتمع. ومن ثَمَّ نشأت ولا شك بين الأسر المالكة وأسرتها علاقة حميمة مكّنت لأسرتها الحصول على امتيازات جليلة، فقد سمحت الملكة حتشبسوت لمربيتها «آن» بأن تبنى لنفسها مقبرة فى وادى الملوك. وقد كان شرف عظيم أن يُمنح لمَن هم من غير الأسرة المالكة. ونال هذا الشرف كذلك «من نفر» وزوجته «سخت تاوى»، التى كانت مرضعة ملكية. وقد كشف الفرنسى ألان زيفى عن مقبرة السيدة «مايا»، مرضعة توت عنخ آمون، وتصورها مناظر المقبرة وهى جالسة تحمل الملك الصغير على ركبتيها وهو يرتدى كامل تيجانه وشاراته الملكية، ومن خلفها كبار رجال الدولة. وأرى أن السيدة مايا كانت مسؤولة عن الملك، حيث كان يتدرب على فنون القتال فى صحراء منف. وربما جاء اهتمام توت عنخ آمون بمربيته لرعايتها إياه بعد وفاة أمه، ولذلك كرمها ببناء مقبرة لها بسقارة، ولأول مرة نرى داخل المقبرة منظرًا للملك نفسه.
وكان أبناء المرضعات غالبًا ما ينشأون مع أبناء الملك، فيصيرون إخوة فى الرضاعة. ونعرف أن الملك تحتمس الثالث قد تزوج من ابنة مرضعته، التى تربى ولعب معها أيام الصغر. وبلا شك فإن أشهر المرضعات فى التاريخ هى أم سيدنا سيدنا موسى، عليه السلام، الذى رفض الرضاعة إلا من سواها. ولنا أن نتصور عدد مَن أرضعن لرمسيس الثانى فى القصر، وكان له من البنين والبنات ما يجاوز المائة!، ويؤخذ من المصادر أن كل أمير كانت له مرضعة واحدة على الأقل. وكن بمنزلة الأمهات. فى رسالة كتبها شاب مصرى من القرن العشرين قبل الميلاد إلى وكيل أعمال يقول: «اكتب لى عن كل ما يتعلق بصحة وحياة مرضعتى». كما كان الأدباء المصريون يهتمون بذكر المرضعات فى نصائحهم إلى أولادهم، وفى ذلك قول عنخ شاشنقى لابنه، وهو يعظه: «لا تعهد بولدك إلى مرضعة؛ بما يجعلها تتخلى عن ولدها». وقد ذكر «من آمون»، الذى حمل لقب «الرئيس الأول لاستقبال الملك أمنحتب الثانى» أنه فخور أن أمه كانت مرضعة الملك أمنحتب الثانى. وصورها تحمل ولى العهد الطفل فى حجرها.
أُبرمت العقود بين الأبوين والمرضعات. وقد حُفظ لنا بعضها، حيث ورد فى أحدها شروط التعاقد وعمل المرضعة والتزامها نحو الأسرة التى تعمل لديها. وكان عليها أن تمد الرضيع بقدر مناسب من اللبن، وألا ترضع طفلًا آخر معه سوى طفلها هى، وأن تتجنب أى علاقة جنسية، والامتناع عن الحمل طوال سنوات الرضاعة، وأن تسهر على رعاية الطفل إذا مرض. أما الأبوان فتعهدا بتزويدها بالملابس والزيت لتدليك الطفل، إلى جانب مرتب يؤدى إليها بانتظام لتغطية نفقات حياتها. ومن خلال أحد العقود قُدر ما دُفع بحوالى ٣٠ من النحاس إلى جانب بعض العطايا كقلائد من حجر الشب الأخضر وسوار وقطعة من الخشب، ونصف لتر من الدهون العطرية. وكانت تلك الوظيفة تقتضى كامل رعاية الطفل بما لا يقل عن ثلاث سنوات، تخول لصاحبتها قدرًا كبيرًا من الاحترام. ويتضح من استعراض ما ذُكر من مختلف وسائل التكريم للمرضعة وما كان ينشأ غالبًا عن علاقات وطيدة مع أسرة الطفل تمتد إلى ما بعد الفطام وانتهاء الرضاعة المكانة الراقية للمرضعة.
وأود أن أنهى هذا المقال بالإجابة عن سؤال مهم وهو: هل كان هناك طلاق فى مصر الفرعونية؟. والإجابة لم يكن الطلاق شائعًا فى مصر القديمة، ولما كان الطلاق أمرًا مطروحًا للمناقشة، فالزوجان كانا معرضين للمثول أمام المحكمة المحلية لاستجلاء الأمر بينهما ومحاولة الإصلاح. وكانت أسباب الطلاق فى مصر القديمة الزنى والعقم أو الرغبة فى الزواج من أخرى أو العكس أو ببساطة شديدة التنافر بين الزوجين. وكان على الزوج فى الأسرة ٢٢ وكذلك ٢٦ أن يتنازل لزوجته عن كل أملاكه، فضلًا عن مهرها الذى تتسلمه عند وقوع الطلاق إذا كان هو مَن تقدم بطلب للطلاق. كما كانت المطلقة تستحق تعويضًا ماليًّا، بحيث تسترد قيمة ما بين نصف قيمة المهر وخمسة أضعافه. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لدى المصريين القدماء نظرة مثالية إلى الزواج، ويتجلى ذلك فى النصائح والحكم التى حفظها لنا الأدب المصرى القديم، والتى تحض على التفاهم بين الزوجين والاحترام المتبادل. وقد نصح الحكيم «بتاح حتب» ابنه بالاهتمام بزوجته واحترامها، فقال: «إذا كنت رجلًا ناجحًا فأسس لنفسك بيتًا، واتخذ لنفسك زوجة تكون سيدة قلبك. أشبع جوفها، واستر ظهرها. إن علاج أعضائها هو الدهان (الزيت العطرى)، اجعل قلبها فرحًا مادمتَ حيًّا. أسعد قلبها طول عمرك، فهى حقل مثمر لسيدها».