بقلم - زاهي حواس
ستظل الشمس تشرق كل صباح على وجه أبوالهول الرابض أمام أعظم ما شيده المصريون القدماء من حضارة؛ وسيبقى هو الحارس الأمين على تلك الحضارة وعنوانها رغم كل الشائعات والتنبؤات الهدامة التى كان منها أن التمثال سوف يقضى عليه ويتحطم خلال 60 يومًا!، وكانت تلك الشائعة منذ سنوات مضت!. وللأسف تتلقف تلك الأكاذيب بعض وسائل الإعلام وتروج لها لتثير الحزن والغضب فى نفوس المصريين دون أن تكلف نفسها جهد البحث عن قدرات وأهلية مطلق الشائعات التى مكنته وبكل هذا التحديد الغريب من الزعم أن أبوالهول الصامد سينتهى قبل مرور 60 يومًا؟!، وكان المؤسف فى الأمر أن مطلق الشائعة لا علاقة له بالآثار أو الترميم أو حتى علوم الجيولوجيا، بل مع الأسف يعمل مرشدًا سياحيًا استنكر زملاؤه المرشدون آراءه الاستعراضية وسعيه المريض خلف الشهرة حتى ولو على أكتاف أبوالهول رمز الهوية المصرية. لقد دأب صاحبنا على نشر خرافاته حول تمثال أبوالهول، ويبدو أن خياله المريض صور له أنه عالم آثار بل ومكتشف عظيم؛ فنراه مرة يخرج فى وسائل الإعلام ليزف لنا نبأ أن أبوالهول له توأم وبالتالى فهو ليس وحيد الحضارة المصرية القديمة!، وعندما سئل أين اختفى توأم أبوالهول؟ قال ببساطة إنه أصابته صاعقة فى العصور القديمة دمرته!. ومرة أخرى رأيناه يكتب عن وجود برديات فرعونية يخفيها المتحف البريطانى لأنها تغير التاريخ المصرى القديم المعروف على حد زعمه، وفى كل مرة كنت أتصدى لمزاعمه الكاذبة جملة وتفصيلًا، وذلك لأنه كان يتعرض دائمًا إلى أعز ما نملك من تراث حضارى وإلى رمز وعنوان الحضارة الفرعونية القديمة كما قلت.وللأسف الشديد فإن الضحية هنا ليس هو الأثر فقط، بل كل إنسان يقدر قيمة الحضارة المصرية وقيمة أبوالهول. ولن أنسى ذلك اليوم حينما سقط حجر من كتف تمثال أبوالهول عام 1988م، واهتز العالم كله لهذا الحادث، وبعدها كنت أقف أمام بائع بسيط وبعد أن عرفنى وجدته يسألنى عن التمثال وعن صحته وقد تهللت أساريره وأنا أخبره أن أبوالهول بخير وسيظل رابضًا أمام أهرامات الجيزة لكل الأجيال.
من حق أى إنسان أن يتكلم فيما يشاء ولكن من واجب الإعلام أن يدقق فى المعلومة ومصدرها ويعود إلى المتخصصين ليتحقق منها، ويعتبر ذلك جزءا لا يتجزأ من أخلاقيات المهنة. وأصبح لقب الخبير الأثرى يمنح لكل من يتحدث عن الفراعنة حتى وإن لم يكن يحمل أى درجة علمية فى علوم المصريات!. والمدهش أن البعض تطوع بمنح هؤلاء درجة الدكتوراه، لذلك فلن أتوقف عن المطالبة بوضع ميثاق شرف وسن قوانين تجرم ما يحدث فى حق آثارنا وحضارتنا التى تميزنا بين الأمم.
أتذكر أننى كنت ألقى محاضرة بمعد السموسنيان بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان موضوع المحاضرة عن أبوالهول. وبعد أن انتهيت من المحاضرة والرد على أسئلة الحاضرين وتوقيع الكتب لهم والتقاط الصور التذكارية معهم، حضر إلىّ صحفى شاب يعمل بجريدة «الواشنطن بوست» وكان ضمن الذين حضروا المحاضرة، ووجدته يخبرنى أن ما ذكرته بمحاضرتى أثار اهتمامه عن أبوالهول، وأنه سوف يقرأ ما كتب عن أبوالهول أولًا؛ وذلك قبل أن يجرى معى حوارًا حتى يكون على قدر من المعرفة يؤهله لطرح الأسئلة والمقارنة بين ما ورد عن التمثال وبين ما سأقوله!، بصراحة أتمنى أن نجد أمثال ذلك الصحفى الشاب وتلك المهنية فى جميع المجالات بكل مكان.
إن كل من لهم صلة بهضبة الجيزة يعلمون جيدًا أن المياه الجوفية بدأت تظهر على السطح أمام مقابر العمال بناة الأهرام، والتى تبعد حوالى ثلاثة كيلومترات إلى الجنوب الشرقى من أبوالهول، وكذلك بدأت تظهر أمام معبد الوادى للملك «خفرع»، وعلى بعد أكثر من 700 متر عن حرم أبوالهول، وذلك بعد تبطين ترعة المنصورية، وعمل الصرف المغطى للترعة فى بعض أجزائها خاصة المقابلة لهضبة الجيزة. وقد قام مركز هندسة الآثار بكلية الآثار جامعة القاهرة بعمل دراسة متكاملة وبمشاركة جميع التخصصات المنوط بها دراسة المياه الجوفية، وقاموا بعمل حفرات عميقة بالمناطق المحيطة بمصدر المياه وبالتالى بدء معالجتها وأكدوا أنه لا توجد خطورة على أبوالهول، ولا بد أن نذكر أن المجلس الأعلى للآثار قام بمشروعات مهمة لإنقاذ الآثار من المياه الجوفية. وكنت شاهدًا بنفسى على وجود المياه أمام الصرح الأول لمعبد الأقصر، وكذلك أثر هذه المياه على حوائط المعبد وجدرانه. وقمنا بمشروع عملاق تكلف 50 مليون جنيه فى ذلك الوقت، وتم إنقاذ معبدى الأقصر والكرنك أكبر مكان للعبادة فى العالم القديم، وتم كذلك تنفيذ مشروعات مماثلة بمعبد إسنا، وفى البر الغربى للأقصر، وفى الفيوم والإسكندرية. وتقوم الآن البعثة الألمانية بمشاركة المجلس الأعلى للآثار بخفض منسوب المياه الجوفية فى منطقة تمثالى ممنون والمعبد الجنائزى للملك أمنحوتب الثالث.
أما عن إجابة السؤال: لماذا أبوالهول بعيد عن خطر المياه الجوفية؟، فذلك لأن النحات المصرى القديم عندما نحت أبوالهول كان مدركًا تمامًا لوجود مشكلتين، الأولى وجود مياه جوفية أسفل موضع التمثال على بعد 4 أمتار. والدليل على ذلك أن المصرى عندما قام بعمل مقبرة رمزية للإله «أوزير» أسفل الطريق الصاعد للملك «خفرع» إلى الخلف من أبوالهول قام بحفر المقبرة على عمق معين حتى يصل إلى المياه الجوفية، حيث إن التابوت الرمزى للإله «أوزير» كان لا بد أن يحاط بالمياه لأن أوزير هو رب العالم السفلى وهو سيد الأنفاق إضافة إلى ارتباطه بالمياه باعتباره رب الحياة والخصوبة والزراعة، وعندما قمنا بالكشف عن مقبرة أوزير الرمزية كانت المياه ترتفع خلال الصيف حتى تغطى تمامًا التابوت، وفى فصل الشتاء يهبط مستوى المياه مرة أخرى، والخلاصة أن المصرى القديم كان يعلم بوجود المياه، بل ويعرف على أى عمق توجد ومتى ترتفع ومتى تنخفض. ومعنى أن يقوم بعمل تمثال أبوالهول فى هذا الموضع هو أنه كان متأكدًا تمامًا أن التمثال سيظل آمنًا من خطر المياه الجوفية.
أما عن المشكلة الثانية التى واجهت المصرى القديم فهى صخرة التمثال حيث المنطقة السفلى والوسطى أسفل الرقبة هشة وتحتاج إلى حماية؛ ولذلك قام المصرى القديم بتكسية جسم التمثال بكساء من الحجر الجيرى لحماية الصخرة نفسها. وجيولوجيًا فإن صخرة التمثال الذى يقع فى النهاية الشرقية لهضبة الجيزة هى صخرة رسوبية ترجع إلى 60 مليون سنة وتنتمى إلى عصر الأيوسين، وهى عبارة عن حجر جيرى تكون من كربونات الكالسيوم وشوائب أخرى كأكسيد الحديد والكوارتز وكربونات الماغنسيوم «الدوليت»، وتؤكد الدراسات التشريحية لصخر أبوالهول أنها تتكون من ثلاث طبقات جيولوجية أقواها منطقة الرأس والرقبة، وأضعفها الأجزاء السفلية التى قام المصرى القديم بتغطيتها بالأحجار، ولقد تعرض أبوالهول إلى محاولات ترميم خاطئة فى العصور الحديثة كان من شأنها تغيير النسب التشريحية للتمثال بوضع أحجار كبيرة وتثبيتها بالأسمنت، مما أدى إلى سد مسام الصخرة الأم، ومنعها من التنفس والسماح بحركة البخر والأملاح؛ والحجر الجيرى مثل الإنسان يتنفس!، وكان من شأن هذه الترميمات سقوط حجر من الكتف اليمنى للتمثال بعدما هطلت أمطار غزيرة على الجيزة. بعدها استطاع المرممون والأثريون المصريون أن يعيدوا إلى أبوالهول شبابه بعد عشر سنوات من العمل الجاد. وحضر الرئيس الراحل حسنى مبارك الاحتفالية الكبيرة أمام أبوالهول ليعلن للعالم كله أن أبوالهول بخير. وإلى الآن هناك المرمم والأثرى وأجهزة الرصد التى تسجل وتقرأ كل ما يحيط بالتمثال من ظروف مناخية وحركة التربة، وللتمثال برنامج صيانة وترميم دورى لمعالجة مناطق الضعف بجسمه. وأخيرًا فلنذكر جميعا تلك الأحوال التى شاهدها أبوالهول، سواء من غزاة قساة، أو مجانين يبحثون عن الكنوز، أو مهاويس أرادوا هدمه بمعاولهم، وعلى الرغم من كل تلك المآسى صمد أبوالهول واحتفظ بابتسامته الآتية من أعماق التاريخ