بقلم : زاهي حواس
سافرت إلى دمياط ومعى التليفزيون الأمريكى، حيث يقومون بعمل فيلم وثائقى عن حياتى، وكان لابد من التصوير فى الأماكن القريبة إلى قلبى، ومنها بالطبع مسقط رأسى.. دمياط، حيث الأرض الطيبة ملتقى البحر والنهر. وبالفعل توقفنا فى أكثر من مكان لى فيه الكثير من الذكريات والقصص والحكايات. ولقد انبهر كل من كان بصحبتى من الأمريكان بالمحافظة الشاطئية ذات الطبيعة الخاصة. زرنا رأس البر ومنطقة اللسان الساحرة وجامعة دمياط وميدان سرور، حيث يوجد مجسم لمشاهير دمياط من أعلام الفكر والثقافة والإعلام.
تتمتع دمياط بتاريخ عريق يضرب بجذوره فى عمق التاريخ المصرى القديم. كانت دمياط جزءا من إقليم «سما بحدت» من أقاليم الوجه البحرى الذى كان معبوده الرئيسى الإله «آمون» إله طيبة، لذلك عرفت عاصمة هذا الإقليم باسم «واست محيت» أى (واست الشمالية، تمييزًا لها عن إقليم «واست شماعى» الجنوبى (طيبة – الأقصر حاليا) وهو الإقليم الرابع من أقاليم مصر العليا. وقد عرفت مدينة دمياط فى النصوص المصرية القديمة باسم «دمى» أو «دميت» وفى القبطية باسم «تاماتى» واليونانية «تاماتيس»، ودمياط فى اللغة العربية.
وتقع مدينة دمياط على الضفة اليمنى من فرع دمياط وقد تأثرت مدينة دمياط كونها مدينة من مدن الدلتا بأحداث التاريخ وبالتغيرات التى طرأت على ساحل البحر المتوسط عن طريق مجرى النيل. وقد تكونت الدلتا شمالاً بفعل الرمال والطمى القادم من الجنوب عن طريق مياه النيل والتى بدورها تصب فى البحر المتوسط وتجعل مصبه ضحلاً، لدرجة أن الموانئ الواقعة عليه كانت غير عميقة وساعدت الرياح القادمة من الشمال إلى الغرب فى تكوين جزر رملية بمحازاة الشاطئ وداخل اليابسة. وبتداخل مياه البحر وفروع النيل المختلفة أدى إلى وجود ما يسمى بمناطق الأحراش فى الشمال والتى كان ينتشر فيها صيد الطيور والأسماك.
وانتشرت فيها مناطق سكنية ومدن تموج بالعمران والنشاط وكانت السفن الضخمة ترسو على شاطئ البحر ويتم نقل البضائع منها إلى مراكب مباشرة داخل فروع النيل، ورغم كل ذلك كان ميناء دمياط من أهم الموانئ المصرية، لما له من موقع متميز من دول الشرق، حيث كانت دمياط تنتج أفضل أنواع الحرير والمنسوجات خلال العصرين البيزنطى والإسلامى. وللأسف الشديد ليس لدينا مواقع أثرية هامة بدمياط ترجع إلى العصر الفرعونى، لكن هذا يرجع إلى ندرة الحفائر، لأن هذه المواقع كانت تموج بالبشر.
ويوجد بدمياط مواقع أثرية ترجع إلى العصر اليونانى الرومانى، وقد تم تسجيل 31 موقعا أثريا، لعل من أهمها «تل البراشية»، حيث عثر على حمام رومانى وشبكة من قنوات المياه المغطاة والمبنية من الطوب الأحمر. وأيضا من التلال الهامة «تل القلعة» و«الكاشف» و«العظام» و«شطا»، وتنتشر هذه التلال على هيئة سلاسل قريبة، أنها كانت مناطق سكنية قديمة تزخر بالعمران وما يحويه من أسواق وحمامات وورش لعصر الزيوت والنبيذ. والتلال الأثرية منتشرة داخل بحيرة «المنزلة» وحصونها وعندما تم تجفيف جزء من البحيرة ظهرت بعض التلال الأثرية، مثل تل آثار «الجصة» و«الزاوية» و«تل زاوية الحمار» ولو تجولنا داخل البحيرة لعثرنا على كمية هائلة من الأوانى الفخارية مستقرة فى قاع البحيرة، ما يلزم البحث الجدى داخل هذه البحيرة وما تحويه من آثار يجب أن نحميها ونصونها من الضياع. وقامت بعثة من المتحف البريطانى بعمل مسح أثرى لهذه التلال يهدف لإلقاء الضوء على تلك المناطق المنسية والغامضة لندرة المعلومات عنها، خاصة أن هذه المواقع كانت تموج بالبشر طوال العصور الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية، وتلك البحيرة تظهر عليها شواهد أثرية مهمة جدا من كسر الزجاج الملون والعملات البرونزية والفخار اليونانى والرومانى، وكذلك بعض قطع الجرانيت والبازلت وأجزاء من تماثيل، وكذلك بقايا جدران معابد منتشرة.
وقد ظهرت فى السنوات القليلة الماضية كميات كبيرة من الآثار الغارقة قبالة سواحل دمياط والتى تم انتشالها عن طريق صيادى الأسماك، ومنها أغطية توابيت وتيجان أعمدة رومانية وتمثال للإله «زيوس» كبير الآلهة اليونانية وزنه حوالى طن من المرمر الرمادى، وأوانى فخارية كثيرة مختلفة الأشكال والأحجام. وهذا سوف يدفعنا إلى تشجيع البعثات التى تغوص تحت الماء للكشف عن بقية الآثار الغارقة وأنا أعتقد أن هذه الآثار سوف تنال نفس الشهرة التى نالتها الآثار الغارقة بمدينة الإسكندرية.
وقد قام المجلس الأعلى للآثار بعمل حفائر بتل آثار البراشية والتى تجاوز القرية التى نشأت فيها وهى قرية «العبيدية». ويقع هذا التل شرق النيل وكشف به عن ورش عصر الزيوت والنبيذ بجوار حمام رومانى، كما تم الكشف عن منطقة السوق والعثور على كميات مختلفة من العملات البرونزية التى كانت تستعمل فى التبادل والبيع والشراء. وكذلك بعض المسارج التى كانت تستعمل فى الإضاءة والكثير من أوانى الحياة اليومية عثر عليها فى منطقة المساكن وهى عبارة عن منازل وحجرات ملحق بها مخازن، وبعد فتح مصر على يد القائد العربى عمرو بن العاص «فى 20 هـ» أمر القائد «المقداد بن الأسود» أن يقوم على رأس فرقة لإخضاع مدن الشاطئ الشرقى، ومن بينها دمياط، وقد قاومت دمياط إلى أن استسلمت عام «21 هـ - 642م»، وكان ابن حاكم دمياط يدعى «شكا». وقد عين ولاة مسلمين على دمياط، غير أن أهل المدينة ظلوا على دينهم المسيحى قرونًا طويلة. وقد تعددت غارات الروم على دمياط وأهم هذه الغارات سنة 238 هجرية فى عهد الوالى عتبة بن أسامة، وقد وصل الروم على رأس أسطول كبير وقام الوالى بتحصين المدينة بحصون ضخمة، وهناك أدلة بأن مدينة دمياط كانت محاطة بسور من العصر الرومانى.
ازدادت أهمية دمياط فى العصر الفاطمى وقلت أهمية باقى المدن، حيث اتسع فرع دمياط وضاقت باقى أفرع النيل وأصبحت دمياط مركزا هاما لصناعة النسيج وأنشأ الفاطميون دارًا لصناعة وبناء السفن بدمياط ولعبت هذه الدار دورا كبيرا، والدليل على ذلك عندما جاء أسطول حاكم صقلية فى عهد الخليفة «الفائز» وغزا (رشید) و(تانيس) و(الإسكندرية) ولم يتصد لهذا الأسطول إلا أسطول دمياط فهزمه ورده عنها. وفى عصر «صلاح الدين» زادت غارات الصليبيين فى عصر الخليفة الفاطمى «العاضد» وكان «صلاح الدين الأيوبى» وزيره فى مصر، فأرسل الصليبيون أسطولا من حوالى ألف سفينة وحاصروا دمياط، وقاومت المدينة حتى أرسل «صلاح الدين» جيشا بقيادة ابن أخيه تقى الدين عمر شاهنشاه، وتم إجلاء الصليبيين من مصر. وقد اهتم «صلاح الدين» بحماية دمياط وقام ببناء ما تهدم من سور دمياط. وأمر بحفر خندق وأبراج حول المدينة لحمايتها ويقول المؤرخون إنه فى عهد الخليفة العزيز بن صلاح الدين، أمر بنقل أحجار من أهرامات الجيزة لبناء السور حول دمياط: «فهل نقلت هذه الأحجار إلى دمياط..أم نقلت إلى مدن أخرى؟».
وعندما وقع النزاع بين الأيوبيين والمماليك خشى المماليك أن تنتهز الفرنجة الفرصة ويسيطرون على دمياط، فقاموا بتخريبها وهدم أسوارها، ولم يتبق منها غير الجامع، وكان ذلك فى عام 648هـ وهو الجامع المعروف الآن باسم جامع (أبو المعاطى) أو جامع (الفتح).
ويقول «المقريزى» إن بعض فقراء المدينة بنوا الأخصاص على النيل قبالة المدينة وسموا هذا المكان المنشية؛ ولعله هو الحى المعروف حتى الآن بهذا الاسم. ثم نمت المدينة وزادت أبنيتها ودورها ومساجدها ومدارسها وأصبحت دمياط الجديدة. وقد اهتم سلاطين المماليك بدمياط اهتمامًا كبيرًا لموقعها الجغرافى والاستراتيجى وبلغت إيرادات دمياط فى عصر «عز الدين أيبك» حوالى ثلاثين ألف دينار، ويقال إن الأمير المظفر «قطز» قد بنى برج السلسلة بالمدينة، وربما يكون هذا برجًا قديمًا قد رممه وأعاده من جديد إلى العمل كسور يحيط بالمدينة لحمايتها من غزو الأعداء. وقد زار الرحالة الشهير «ابن بطوطة» دمياط ووصفها سنة 725 هـ بقوله: «إنها مدينة فسيحة الأقطار متنوعة الثمار عجيبة الترتيب أخذت من كل حسن بنصيب وكانت دورها على النيل، وكان لهذا الدور درج ينزل إلى النيل» ويدل ذلك على قمة ما وصلت إليه هذه المدينة العريقة فى القرن الثامن الهجرى، وكان من يدخل هذه المدينة لا يخرج منها إلا بخاتم الوالى على ذراعه ليريه لحراس المدينة. وقد وصف ابن بطوطة دمياط وصفا رائعا لكل معالم المدينة، وهذا يدل على أنه كان للمدينة سور وباب لحمايتها. أدرك «الظاهر بيبرس أن دمياط لا تحميها أسوار أو حصون، ولهذا لجأ إلى طريقة فعالة لحماية مدخل النيل عند دمياط، ففى السنة الثانية من حكمه عام 659هـ، أمر بردم فم بحر دمياط حتى لا تدخله السفن واهتم اهتماما كبيرا بدمياط وأسطولها البحرى وزادت شيئا فشيئا أهمية دمياط وأسطولها البحرى، وقد أمر أيضا الملك «الظاهر بيبرس» بتنفيذ الجسر الزراعى الذى يربط بين دمياط القاهرة، ويعتبر هذا من أهم الأعمال التى تنسب للملك «الظاهر بيبرس». ومازلنا نتحدث عن الدمايطة ودمياط البلد الفريد الذى احتفظ بشخصية فريدة لم يستطع أحد أن يعرف سر التفوق وسر العمل وسر الإبداع الذى يمتاز به الدمايطة، واعتقد أن الدكتور عبد العظيم «وزير» قد فطن إلى العثور على المفتاح الذى يعرف من خلال بعض أسرار الدمايطة. أما تاريخ دمياط فى القرن التاسع الهجرى، فهى الفترة التى ظهرت فيها شخصية دمياط والدمايطة.