الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين

الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين

الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين

 صوت الإمارات -

الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين

بقلم : زاهي حواس

قد تبدو للبعض مجرد قصة كفاح قصيرة لعالم مصرى شاب غيبه الموت وهو فى قمة حيويته وعطائه، إلا أنها فى الحقيقة نموذج رائع ومثالى لما يمكن لعزيمة وصبر شاب مصرى من قلب حى شبرا العتيق أن يحققه. تعلم رمضان بدرى حسين فى مدارس حكومية، وتخرج فى جامعة القاهرة حاصلًا على ليسانس الآثار المصرية عام ١٩٩٤. وما زلت أذكر هذا اليوم الحار من شهر أغسطس عندما دخل إلى مكتبى هذا الشاب الأسمر تعلو وجهه ابتسامة أمل وتفاؤل؛ قدم نفسه إلى بكل ثقة قائلًا: «رمضان بدرى، خريج كلية الآثار، دفعة هذا العام، جئت للعمل مع حضرتك!». لم يكن رمضان يحمل كارت توصية من شخصية مهمة ذات مركز مرموق، ولم يقل لى إنه من عائلة فلان وقريب فلان ويعرف فلانا وفلانا!، لم يكن رمضان سوى نفسه وما يحمله من علم وأخلاق وتربية مصرية أصيلة. وبالفعل بدأت رحلة رمضان معى من هذا اليوم. وما هى سوى أشهر قليلة إلا واستطاع أن يكسب احترام الجميع، ورشحته للتدريس فى عدد من معاهد السياحة وكان أن تفوق على كل من كان فى مثل عمره بل ومن كانوا يسبقونه بسنوات. كان طموح رمضان ونهمه إلى العلم والتفوق بلا حدود، وطاقته أكبر بكثير من أن يقف أى إنسان فى طريقه. كنت أعلم أنه سيكون له شأن عظيم بين علماء المصريات، وكنت أعلم أنه سيخدم آثار مصر ويحافظ عليها. لذلك بدأت البحث له عن منحة للدراسة ونيل درجة الدكتوراه، وبالفعل ساعدته فى الحصول على منحة دكتوراه من جامعة براون الأمريكية العتيقة؛ واحدة من أعرق جامعات العالم وبها قسم للمصريات والدراسات الشرقية هو من أهم أقسام المصريات فى العالم كله.
بدأت رحلة رمضان فى الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل ظروف صعبة بل وربما تكون مستحيلة، خاصة بعد وقوع هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ وسقوط مبنى التجارة العالمى فى نيويورك. وكان على رمضان التركيز فى دراسته والحياة بأقل القليل من المال للدراسة قبل أن يحصل على منحة كاملة. كنت على ثقة من تفوق رمضان حسين وكنت أتابع معه ومع أساتذته كل ما يخص دراسته، وحياته هناك. تمر سبع سنوات أو ما يزيد بقليل ليعود رمضان حسين من الولايات المتحدة الأمريكية حاملًا درجة الدكتوراه ومعه أسرته الصغيرة المكونة من زوجته الدكتورة أنجيلا وملاك صغير اسمه يوسف، وبالفعل عاد الدكتور رمضان وتم تعيينه مديرًا لمركز تسجيل الآثار وما هى سوى أشهر قليلة وكان رمضان قد استطاع نفض التراب عن المركز وتحويله إلى خلية نحل تعمل وتكتشف كنوزا كانت محفوظة فى الأرشيفات. كون رمضان فرق عمل من شباب الأثريين وعلمهم وسائل التسجيل الأثرى الحديث، وأصبح له تلامذة ومساعدون يحترمونه ويقدرون علمه الغزير.

كانت الأمور تسير نحو المنهج الطبيعى؛ وهو أنه يومًا ما سيصبح الدكتور رمضان حسين هو الأمين العام ثم وزيرًا للآثار وربما رئيسًا للأكاديمية المصرية بروما أو فى منصب مهم باليونسكو.. هكذا كنت أثق فى مستقبل تلميذى المجتهد. لكن وقعت أحداث يناير ٢٠١١ التى استغلها أعداء مصر فى النيل منها، وبمنهجية مخطط لها بعناية بدأت حملات منظمة لتشويه كل رموز الوطن وعلمائه لا لشىء سوى كونهم يخدمون بلدهم ويقفون عقبة فى وجه مخططاتهم. توليت لفترة وزارة الآثار واخترت الدكتور رمضان مساعدًا لى ولكن سرعان ما قفز الإخوان إلى الحكم، ولم يكن أمام الدكتور رمضان سوى أن يغادر مصر مع أسرته إلى وجهة أخرى يستطيع فيها تحقيق ذاته واستكمال مشواره فى الحياة. بعد فترة قصيرة فى الولايات المتحدة كان قد استطاع الحصول على منحة للتدريس والعمل فى جامعة توبنجن بألمانيا التى غادر إليها مع أسرته متحملًا وحده أعباء كل هذه الانتقالات من بلد لآخر، خاصة أنه كان قد رزق فى مصر بطفلين آخرين. فى توبنجن كان رمضان يقوم بالتدريس والعمل فى مشروع مهم لإعادة نشر وتسجيل كتب العالم الآخر المسجلة على جدران عدد من مقابر العصر الصاوى والفارسى بسقارة فى محيط المعبد الجنائزى لهرم الملك ونيس. وبالفعل استطاع من خلال هذا المشروع والمنحة التى حصل عليها من جامعة توبنجن العودة إلى مصر على رأس بعثة أثرية من جامعة توبنجن للعمل بسقارة.

مواسم عمل قليلة ونتائج مبهرة ونشر علمى متميز جعل الدكتور رمضان بدرى حسين يؤمن لنفسه مكانًا متقدمًا بين علماء المصريات خاصة فى مجال تخصصه. ولفتت نتائج الحفائر التى قام بها فى سقارة أنظار المجلات المتخصصة التى تنشر مقالات عن الآثار المصرية وأحدث الاكتشافات فى مصر. كان رمضان قد استطاع الكشف عن قناع جنائزى بديع جعل المتخصصين يصنفونه ضمن أعظم الاكتشافات فى ذلك العام، ثم سرعان ما توالت الاكتشافات الأثرية على يد الدكتور رمضان الذى كشف لنا عن ورشة تحنيط بسقارة فى حالة حفظ رائعة، أضافت الكثير إلى معلوماتنا عن التحنيط فى مصر القديمة خلال العصور المتأخرة، وقامت قناة الجمعية الجغرافية بعمل فيلم تسجيلى معه عن اكتشافاته المثيرة فى سقارة. كان الدكتور رمضان يجمع بين فضيلة العلم والأخلاق وكان رحمه الله محبوبًا من كل الناس على اختلاف طبائعهم، ولم يكن فى يوم من الأيام طرفًا فى مشكلة بل دائمًا كان هو من يتطوع لحل مشكلات زملائه وتلامذته.

لم أكن أتخيل أنه سيأتى يوم لأكتب عن تلميذى الدكتور رمضان بصيغة الماضى!، لكن هذا قضاء الله الذى أنعم عليه بالعلم والخلق الطيب وجمع له حب الناس. وقد ترك لنا رمضان ذكرى جميلة ستظل تحيا معنا إلى أن نلتقى عند رب غفور رحيم. مات رمضان بعد أشهر قليلة من المرض ورحل عن دنيانا فى ٨ مارس ٢٠٢٢. وكنوع من التكريم له ولروحه تقرر إصدار مؤلف من الدورية العلمية للمجلس الأعلى للآثار يشترك فيه بعض من محبيه من أساتذة المصريات بمقالات علمية مهداة إلى روحه. واليوم الثلاثاء الخامس من مارس وبمناسبة مرور الذكرى الثانية لوفاة تلميذى الدكتور رمضان حسين، ينظم الدكتور على عبد الحليم مدير المتحف المصرى بالقاهرة معرضًا يضم مراحل من التاريخ العلمى وأهم الاكتشافات الأثرية التى حققها الدكتور رمضان حسين، وهذه فرصة لكل شاب يريد أن يجتهد ويتعلم ويكافح أصعب الظروف ليحقق ما يحلم به؛ أن يأتى إلى المتحف المصرى ويزور هذا المعرض لكى يعرف أنه بالفعل يستطيع.

يظل هناك مطلب بل وأمل أعلم أن السيد اللواء خالد عبد العال محافظ القاهرة سيحققه لكى نضرب المثل العظيم لكل الأجيال، ونعلى من قيمة العطاء الذى لا يقاس بطول العمر أو قصره. ومطلبى هو أن يتم إطلاق اسم الدكتور رمضان بدرى حسين على أحد شوارع حى شبرا الذى ولد به ليظل اسمه حيا بيننا. لقد كان من أعظم ما حرص عليه أجدادنا الفراعنة هو إبقاء أسماء العظماء من الملوك والعلماء حية بينهم يرددونها ويترحمون على أصحابها، وفى ذلك يقول الحكيم المصرى القديم: «يموت الإنسان عندما يموت آخر شخص يتذكر اسمه»، سيظل رمضان بدرى حسين حيًا بذكراه واسمه بيننا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين الذكرى الثانية للدكتور رمضان حسين



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 09:11 2021 الثلاثاء ,16 شباط / فبراير

إغلاق مطعم الشيف بوراك التركي في الإمارات

GMT 11:52 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

مسؤولو جهات فائزة يعلنون أن التكريم دافع لمزيد من العطاء

GMT 04:53 2018 الأربعاء ,31 تشرين الأول / أكتوبر

السمك المكريل بطريقة جديدة

GMT 21:37 2018 الأربعاء ,03 تشرين الأول / أكتوبر

شباب الأهلي يستقر على التعاقد مع الرباعي الأجنبي

GMT 02:43 2013 الجمعة ,05 تموز / يوليو

معرض بشأن تأثير السحب في أعمال الفنانين

GMT 01:55 2016 السبت ,30 كانون الثاني / يناير

أكسسوارات عصريّة لربيع وصيف 2016

GMT 14:46 2012 الإثنين ,31 كانون الأول / ديسمبر

معرض في فرنسا يناقش طريقة الفنانة ساندي شرمان في التصوير

GMT 04:00 2015 الإثنين ,27 تموز / يوليو

لبنى دوري تعرض أعمالها الفنية في ضواحي مراكش

GMT 02:00 2013 الأربعاء ,17 تموز / يوليو

باندا تنجب توأمًا فى حديقة حيوان أميركية

GMT 23:25 2017 الثلاثاء ,07 شباط / فبراير

الفنانة أصالة تظهر في إطلالة ملكية في "هلا فبراير"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates