بقلم: فاطمة ناعوت
تحدثنا فى مقالى السابق، يوم الإثنين، عن جريمة إلقاء القمامة فى الطريق، والتى لا يرتكبُها إلا شخصٌ مهزوزٌ فاقدُ الثقة فى نفسه، ولا يدرك قَدرَه الرفيعَ كإنسان مُكرّم ذى مواهب. ووعدتكم بالحديث اليوم عن ثلاثٍ من الهدايا الربّانية الثمينة التى نتسلّمُها منذ ميلادنا، غير أن كثيرين يغفلون عن اكتشافها وفضّ أغلفتها، فضلا عن استخدامها والاستمتاع بها.
يحدثنا «ستيفن كوڤى»، فى كتابه الشهير، عن هدايا ثلاث لا يدركها المخفقون، فيتحولون إلى بشر فوضويين.
الأولى هى: «الحرية». حرية اختيار سلوكك الإنسانى. وهذه الهدية تهدمُ التبريرَ الذى يرفعه كلُّ فاشل حين يلعبُ دور الضحية ويُلقى باللوم على المجتمع. فأنت ابنُ اختياراتك، لأن لك عقلا حرًّا يختار، فلا طائل من إلقاء اللوم على العادات الموروثة والثقافة السائدة والبيئة المحيطة. البشرُ يختارون حياتهم، عكس الحيوانات والآلات والروبوت المنقادة. هناك مسافةٌ بين «المؤثر» و«الاستجابة»، فى تلك المسافة تكمن حريتنا وقدرتنا على اختيار ما نفعل. فالرياح فى البحر لها اتجاه واحد، لكن بعض السفن تُبحرُ شرقًا وبعضها يُبحر غربًا، لأن لديها أشرعةً تختارُ لها اتجاه سيرها.
الهدية الثانية هى: «المبادئ». بوسع المرء «اختيار» المبادئ والقيم السامية ليحدد مسلكه الشخصى. الصدق والعدل وإتقان العمل والرحمة والنظافة وخدمة الآخرين وغيرها من بين المبادئ التى يختارها الناجحون، هى قوانين طبيعية ثابتة لا تتغير مع الزمان والمكان.
الهدية الثالثة هى: «القدرات الخاصة». الذكاءاتُ الأربعة التى نتمتع بها. فالإنسان يتكون من أربعة أجزاء رائعة هى: الجسد والعقل والقلب والروح. تتوافق مع تلك الأجزاء أربعةُ ذكاءات أو أربع قدرات نمتلكها جميعًا. الذكاء الجسدى، الذكاء العقلى، الذكاء العاطفى، الذكاء الروحى. تلك هدايانا التى ولدت معنا، وقلّما نستخدمها. قدرتنا على التحليل والتعليل والتجريد واستخدام اللغة والتصوّر الذهنى والإدراك.. ذاك هو الذكاء العقلى. وهو «فرعٌ» واحد من الذكاء نظّنه «كلَّ» الذكاء. لكن، تأمل المهام العظمى التى يقوم بها جسدُك دون جهد واع منك. كيف تُدار أجهزتك التنفسية والعصبية والهضمية والدموية بشكل دائم، وكيف تُدّمَر الخلايا المريضة وتنتعش الخلايا السليمة طوال الوقت. جسدُ الإنسان منظومة مُعجزة تُدير سبعة تريليونات خلية على نحو مذهل من التنسيق الفيزيائى والكيميائى الحيوى، فتتمكن من طى صفحة فى كتاب أو قيادة سيارة أو دراجة، أو نقر مقال كهذا على كيبورد. فكّرْ فى الأمر واندهشْ من تلك المعجزة التى تنسى أن تتأملها. كم مرّة فكرت فى قلبك الذى ينبض دون أن تأمره بذلك، ورئتيك اللتين تنبسطان وتنقبضان من تلقاء ذاتهما وأنت تغطُّ فى نومك؟!.. إنه الذكاء الجسدى الذى ننساه ضمنَ ما ننسى.
فى متجر ريفى فى كارولينا الشمالية كُتبت العبارة التالية: «يقول الدماغ: أنا أذكى عضو فى الجسد. فيردُّ القلبُ: مَن أخبرك بذلك؟!» أما الذكاء العاطفى فهو قدرة الإنسان على معرفة ذاته وإدراك مشاعره ووعيه النفسى والمجتمعى الذى يؤهله للتعاطف مع الآخرين واحترام اختلافه معهم، ويمنحه مَلَكةَ الاعتراف بالخطأ وإعلان نقاط ضعفه وعلاجها. وتؤكد الأبحاثُ أن الذكاء العاطفى يلعب دورًا أكبر من الذكاء العقلى فى القدرة على النجاح وبناء العلاقات وقيادة الآخرين. ثم يأتى الذكاء الرابع. الذكاء الروحى، وهو الأهم والأكثر مركزية بين الذكاءات الأخرى لأنه يقودها جميعًا. وهو سعينا الدائم وراء «المعنى» والاتصال باللامحدود. هو سعى الإنسان الحثيث منذ سالف الأزمان نحو الاتصال بشىء أكبر وأكثر استحقاقًا للثقة من ذواتنا. التفكير فى لغز كوننا أحياء. الذكاء الروحى يُمكّننا من إدراك المبادئ الصحيحة وتشكيل ضمائرنا وفق القيم العليا. إنه الجوهر الذى يجعل منّا بشرًا. فروح الإنسان هى شعلة مقتبسة من روح الله تعالى. ليتنا نفضُّ أغلفة هدايانا عسانا نعلو.
***
ومن نُثار خواطرى:
***
(عيونُ البلاستيك)/ الكيسُ الفارغُ/ الذى يتأرجحُ مثل بالونٍ شائهٍ/ فى عاصفة/ مطمئنًا إلى خلوده الأبدىّ/ مهما حاولوا إقصاءَه عن عيونهم/ عصىّ على الذوبان/ عصىّ على الموت/ يُسلّى خواءَه/ بعدِّ الوجوهِ فى الطريق/ ومسحِ أبعادِ المدينةِ/ والتحديق فى البيوت والصناديق التى/ تضمُّ رفاتَ الرفاق/ ثم / بعيونه الكثيرة/ المصنوعة من خيوطِ النفط/ يشخُصُ فى وجوه العمال/ يضحكُ ويقول: متشابهون جدًّا/ عيونُهم/ بين الحَزَنِ والحَزَنْ/ مثل هاتين اللتين تحدقان الآن/ فى الورقة المستطيلة.