«جريمة بيضاء» في محكمة الضمير

«جريمة بيضاء» في محكمة الضمير!

«جريمة بيضاء» في محكمة الضمير!

 صوت الإمارات -

«جريمة بيضاء» في محكمة الضمير

بقلم: فاطمة ناعوت

 

هل قتلتَ أحدًا من قبل؟ أغلبُ الظنِّ ستقول: «لم أفعل!». لكن الحالَ أن قتلةً كثيرين يعيشون بيننا، وربما لا يدركون أنهم قتلوا. فالقتلُ ليس وحسب سكينًا وغدارةً ومسدسًا وسُمًّا، بل هناك ألوانٌ شتى من القتل، لا تراقُ فيها الدماءُ البشرية، بل تُهرَقُ فيها دماءُ الروح. كثيرون ارتكبوا جرائمَ أفلتت من قبضة القانون لأن لا أدلةَ ثبوتيةً عليها، وهو ما يندرجُ تحت مظلّة «الاغتيال المعنوى». القانونُ يجرّمُ «شهادة الزور»، لكنه يُمرّرُ «الكذب»، وهو رأسُ الجرائم، مثلما يتجاوزُ عن جرائمَ قاتلة مثل: الحقد، البُغض، الطمع، الأنانية، الحسد، الاغتياب، وغيرها من جرائمَ قد تصل فى مُنتهاها إلى «القتل»، ولكن تعقُّبَها وإثباتَها جنائيًّا مستحيل. لهذا فلا عجب أننا نصادفُ فى حياتنا بل ونصادقُ آلاف القتلة يعيشون بيننا خارج أسوار السجون، وقد نكون نحن من أولئك المجرمين، نُقرُّ بذلك، أو نُنكر، يعاقبُنا الندمُ، أو نبرر لأنفسنا ما لا نسامح فيه سوانا. تلك هى المسافة بين «القانون» و«العدل». القانونُ ميزانُه «الدليل»، والعدلُ ميزانُه «الضمير».

تلك الإشكالية الوجودية الأزلية كانت الهاجس الذى يُحرّك قلمَ الكاتب السويسرى «فريدريش دورينمات» فى كثير من أعماله، مثل مسرحية «زيارة السيدة العجوز» التى ظلمها أهلُ القرية طفلةً فقيرةً وافترسوا جسدها فى «جرائمَ بيضاء» من تلك التى لا يراها القانونُ، فعادت إليهم وهى عجوزٌ ثرية لتعقد محاكمتها الخاصة وتنتقم من جلاديها. ومثل قصة «العُطل» التى ترجمها للعربية المبدع «سمير جريس» وتحكى عن ثلاثة من رجال القانون: قاضٍ، ممثلُ نيابة، محامٍ، استقالوا من مِهنهم لكفرهم بمواد القانون العاجزة عن تحقيق العدل إذا غاب الدليل. فالشاهدُ أن جرائمَ عديدةً تنجو من قبضة العقاب؛ لأن لا دليلَ ماديًّا عليها، إذ تُرتكَبُ داخل خبيئة النفس البشرية بعيدًا عن عيون الناس والقانون. انتبذ الأصدقاءُ الثلاثة بيتًا معزولًا فى مكان ناءٍ، وراحوا يمارسون «لعبة العدالة» عبر محاكمة مرتكبى تلك الجرائم «البيضاء» التى لا يعاقب عليها القانون.

مسرحية «جريمةٌ بيضاء» يقدّمها «مسرح الهوسابير» ضمن عروض «المهرجان القومى للمسرح المصرى»، كتبها الشاعرُ «يسرى حسّان»، وأخرجها المبدع «سامح بسيونى» وأنتجتها الكاتبة الجسورة «أروى قدورة» التى تتحمّسُ للأعمال الصعبة دون حسابات «ربحية»، إلا ما يصبُّ فى حقل الفن الرفيع. فلعّلها من نوادر مسرح القطاع الخاص أن نشاهد على خشبته عرضًا بهذا التعقيد الفلسفى والتركيب النفسى وباللغة العربية الفصحى، التى لا نستمعُ لها إلا على خشبات مسارح الدولة.

«جريمةٌ بيضاءُ»، عنوان اختير بعناية، إذ يُذكّرنا بـ«الكذبة البيضاء»، حين نودُّ أن نبررَ لأنفسنا تزييفَ الحقائق، رغم إدراكنا أن «قانون الأخلاق» له معاييرُ أشدُّ صرامةً من مواد القانون العقابى المعروفة. فالكذبُ كذبٌ لا لونَ له، والجريمةُ جميعُها سوداءُ، مهما نجحت فى الفرار من العقاب. العرضُ مكتوبٌ بلغة رصينة لا تخلو من المرح، والإخراجُ جيد تداخلت فيه أزمنة الحاضر والماضى. الحاضر: حيث المحاكمة التى شيدها سادةُ القانون المتقاعدون مع الجلاد؛ ليحاكموا الموظفَ البسيط الذى أثرى بعد ارتكابه «جرائمَ بيضاء» مثل: «الحسد، الطمع، الإغواء، الخيانة، الوشاية»، فتسبب فى مقتل رئيسه ليحتلَّ مكانَه ويثرى؛ دون أن تخضع أىٌّ من جرائمه لعقاب القانون. والماضى: حيث يعترفُ المجرمُ بجرائمه بعد الضغط عليه والإيقاع به من قِبل وكيل النيابة الذكى الذى ينجح فى استخراج الخطايا من دفينة اللاوعى إلى حاضرة الوعى، عن طريق الإشارة إلى أشياء تدل على الثراء المفاجئ الذى حصده الموظف فى وقت قصير مثل الولاعة الذهبية والسيارة الفارهة وغيرهما من القرائن التى تحولت إلى أدلة ثبوتية باعتراف الموظف، رغم تحذير المحامى له بعدم الثرثرة، وتحت عينى القاضى السعيد بانكشاف الحقائق، والجلاد المتشوّف المتشوّق لتنفيذ القصاص. العرض بطولة «محيى الدين يحيى» فى دوار «ألفريدو ترابس» الموظف المتهم، «ممدوح الميرى»/ القاضى، «خالد محمود»/ المحامى، «سامح بسيونى» (مخرج العرض) فى دور ممثل الادعاء ووكيل النيابة الماكر. وأما شخصية «الجلاد» فقد أداها باقتدار الفنان «أحمد أبوزيد» بجلبابه الأسود وشعره المنسدل وملامحه الجامدة وعينيه القاسيتين، كما يليق بشخصية «عشماوى».

ومثلما تحمس القطاعُ الخاص لإنتاج هذا العمل «الدورنيماتى» المعقد فى سابقة جسورة، نذكر أن «العطل»، سبقت الدولةُ فى تقديمها على «مسرح الغد»، وتُعرض الآن كذلك ضمن عروض المهرجان بعنوان «النقطة العميا»؛ فى إشارة إلى البقعة المظلمة فى نفوسنا التى نخفى فيها جرائمنا عن عيون الناس والقانون والعدالة. وهو عرضٌ فائق الجمال من إخراج «أحمد فؤاد»، وسبق أن كتبتُ عنه مقالًا فى جريدة «المصرى اليوم» بعنوان: «النقطة العميا.. المسرحُ فى تمامه». شكرًا للمسرح المصرى، العام والخاص، على كل هذا الثراء والتنوع والجمال.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«جريمة بيضاء» في محكمة الضمير «جريمة بيضاء» في محكمة الضمير



GMT 19:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تحت البحر

GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

انتصرنا

GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض

GMT 19:44 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

«إنت بتفهم في السياسة أكتر من الخواجه؟!»

GMT 19:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس ترمب؟!

GMT 19:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

مجموعة العشرين وقمة اللاحسم

GMT 19:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لو أنه أنصف لبنان

GMT 19:42 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

مأساوية الحرب وأفكار النهايات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 01:44 2018 السبت ,29 كانون الأول / ديسمبر

جيمي أيوفي يستمتع مع أسرته في "أتلانتس دبي"

GMT 10:11 2012 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير الطاقة الإثيوبي: في طريقنا لاستكمال مشروع سد النهضة في 2015

GMT 19:07 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

اسباب تضخم الكبد وطرق العلاج

GMT 18:36 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

صفّ السيارات يتسبب في مشاجرة بالضرب بين رجل وفتاة في تكساس

GMT 20:58 2013 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

أول اجتماع لرئيس التليفزيون لبحث تطوير القنوات المصرية

GMT 06:43 2015 الجمعة ,19 حزيران / يونيو

الطقس في الإمارات الجمعة مغبرًا جزئيًا

GMT 01:51 2016 الثلاثاء ,29 آذار/ مارس

افضل التصاميم البارزة لأحذية ربيع 2016

GMT 11:53 2013 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام مسابقة الخطابة باللغة العربية للجامعات الصينية

GMT 22:33 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

إطلالة مثيرة للموديل هايدي كلوم في حفل "أمفار"

GMT 02:28 2014 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

"الإسلاميّون" يعتبرون "العلمانيّة" ارتدادًا عن الدين

GMT 14:55 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

طاهية تصنع قطار من خبر الزنجبيل "بالحجم الطبيعي" في سيدني

GMT 22:11 2013 الأربعاء ,29 أيار / مايو

الموسيقى المعاصرة على "راديو فرنسا" الأربعاء

GMT 03:26 2013 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

مجدي يعقوب يجري 3 عمليات "قلب مفتوح"

GMT 15:12 2013 الإثنين ,30 أيلول / سبتمبر

جامعة عثمانية إحدى أبرز جامعات الهند وآسيا

GMT 18:29 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الجامعة الأميركية في الإمارات تنظم مؤتمرًا عن "الناتو"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates