أقدمُ لكم أبى

أقدمُ لكم.. أبى

أقدمُ لكم.. أبى

 صوت الإمارات -

أقدمُ لكم أبى

بقلم: فاطمة ناعوت

فى مثل هذه الأيام فقدتُ أبى المثقفَ المتصوفَ الذى غرسَ فى قلبى حبَّ جميع خلق الله دون تمييز. علّمنى أن الكراهية فقرٌ أخلاقىّ وضعفُ إيمان. لم أسمعه يومًا يذكر غائبًا بسوء. وإن رحل شخصٌ كان يهمسُ: «اللهم ارحمه وموتى العالمين». علمنى أبى ألا أتمنى الشرَّ لإنسان، ولو آذانى. لأن القوةَ فى العُلوّ والغفران، لا فى التصاغر والانتقام. علمنى أن أقولَ: «سلامًا» لمَن لا يستحقُّ المجادلة، لأكون من: «عِباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هَونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا»، كما تنصُّ سورة «الفرقان/٦٣». علّمنى أبى أن حُبَّ الله رهينٌ بحبّ خلق الله. وأن الانتصارَ لمظلومٍ آيةٌ من آياتِ الله العليا لأن الله تعالى حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بيننا محرّمًا؛ كما فى الحديث القدسى: «يا عبادى إنّى حرَّمتُ الظلمَ على نفسى، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا». علمنى أبى أن مَن يكره لا يحبُّ. ولهذا أفخرُ دائمًا بأن «جهاز الكراهية» فى داخلى مُعَطلٌ، ولا أسعى إلى إصلاحه.

هذا أبى المتصوفُ النبيل الذى حفظ القرآن كاملًا، وكان يؤذنُ فى المسجد بصوته الجميل ويؤم المصلّين، علّمنى أن أحترمَ جميع العقائد؛ لأنها سعىٌ إنسانىٌّ وبحثٌ دؤوبٌ عن الخالق العظيم. كان أبى الجميل يُجلسنى على ركبتيه، وأنا فى الثالثة من عمرى، ويقرأ لى قصص الأنبياء. ويعلّمنى القرآنَ وضبطَ مخارج الكلمات. وكان يعشقُ العذوبةَ الصوتية. يُدير تسجيل جروندج GRUNDIG فتُشيعُ فى أرجاء البيت شقشقةُ «أم كلثوم» و«صباح»، وعلى الجهاز ذاته شغفتُ بعذوبة: «المنشاوى» و«عبدالباسط». وكان يحبُّ «فؤاد المهندس وشويكار»، ويتباهى بما لديه من مسرحياتهما مسجّلةً على أسطوانات، ويعتبرها «ثروة قيّمة». وكان دائمًا يقول إننى أشبه «شويكار». وذات يوم قامت أمى بمسح جميع الأسطوانات بما تحملُ من مسرحيات وأغانٍ لكى تسجّل عليها دروس الإنجليزية التى كان «مستر وليم» يعطيها لى وشقيقى! وحين اكتشف أبى تلك «الجريمة» حزن كثيرًا، وخاصمها. لكن خصامَ أبى كان يذوبُ بابتسامة. وكان خفيفَ الظل؛ حين ترتدى أمى فستانًا جديدًا وتسأله رأيه؛ يمازحها ضاحكًا: «الحكاية مش السَّدّ، الحكاية القصة اللى ورا السد!».

حين اكتشفتُ أننى عسراءُ، «شولة»، أى أكتبُ بيدى اليسرى، وبدأ زملائى فى المدرسة يضحكون لأننى عاجزة عن الكتابة مثلهم باليمنى، ركضتُ إليه باكيةً، فضمّنى إلى صدره، وقال: «هذا تميّزٌ، وليس عجزًا. كثيرٌ من العباقرة كانوا عُسرًا يكتبون باليسرى». وعدّد لى: آينشتين، أرسطو، بيتهوفن، نيتشه، نابليون، الإسكندر الأكبر، تشرشل، غاندى، نيوتن، مارى كورى، دافنشى، مايكل- آنجلو، بيكاسو، كاسترو، آرم سترونج، وغيرهم، كانوا من العُسر. وبعدما حكى لى قصص أولئك العباقرة، علّمنى أن جين LRRTM١ فى المخ هو المسؤول عن العَسَر؛ لأنه يُنشِّط فصَّ المخ الأيمن، المتحكّم فى نصف الجسد الأيسر. وهذا الفصُّ المُبدع هو ماكينةُ الخيال واللغة والرياضيات والفنون. لهذا نجد كثيرين من العُسْر رسّامين ونحّاتين وأدباء وفيزيائيين وعلماء رياضيات. وحين تنمّر زملائى فى المدرسة على اسم «ناعوت»، ركضتُ إليه أُسائله عن المعنى؛ فنهض إلى مكتبته وجلب «المعجم الوسيط»، وفتح باب «نَعَتَ»، وراح يقرأ لى: «يُقالُ فَرَسٌ ناعتٌ يعنى: أصيل سبّاق، ورجلٌ نُعتةٌ نَعيتٌ ناعوتٌ: أى غاية فى الرفعة، جيدٌ كريمٌ حسُنت خصاله..». لَكَم أشتاقُ إليكَ يا أبى، ولَكَم أحتاج إليك سندًا وصخرةً أتكئ عليها من تعب الحياة. أحسن اللهُ مُقامَك فى فردوسه الأعلى، وشكرًا لكل ما علمتنيه من قيم جعلتنى فى حال سلام روحى، رغم أن فاتورة محبة «جميع الناس» باهظةٌ وصعبة، فأنْ تُحبَّ «جميعَ» الناس يعنى أنْ يحاربَكَ «معظمُ» الناس!، لكن رضا الله خيرٌ من رضا البشر، وسلامَ الإنسان الداخلى أهمُّ من حُكم الناس. ولهذا قال الإمام «علىّ بن أبى طالب»: «لا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلّة سالكيه». ومحبةُ الناس حقٌّ لأن الله أحبَّ جميع خلقه، وهو الحقّ.

***

ومن نُثارِ خواطرى:

(أبي)

لا تأتِ الآن يا أبى!/ فأنا/ لم أعُدْ أنا/ والولدُ الذّى سرقَ قلمى/ وكسَّرَ دُميتى/ حتى أبكى/ لم يعُدْ هناك.

دعنى أُخبركَ/ أنَّ تعاليمكَ صارت سرابًا/ ليس لأنكَ مِتَّ/ منذ عشرين قرنًا/ بل لأنكَ /طِرتَ إلى السماء/ قبل أن تعلّمنى/ كيف أعزفُ الجيتارَ/ دون أن تجرحَ أوتارُه/ أوردتى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أقدمُ لكم أبى أقدمُ لكم أبى



GMT 05:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

يتفقد أعلى القمم

GMT 05:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا و«تكويعة» أم كلثوم

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والنظام العربي المقبل

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

2024... سنة كسر عظم المقاومة والممانعة

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates