بقلم : فاطمة ناعوت
واحدةٌ من إشراقات الجمال التي تُميّز شهرَ رمضانَ المعظم، خصوصًا في مصر الجميلة، اجتماعُ الناس على موائد الإفطار الرمضانية الطيبة، التي تضمُّ الأصدقاءَ من جميع العقائد والطوائف ممَن يظنهم الغافلون «فرقاءَ»، وما هم بفرقاءَ؛ بل تجمعهم الإنسانيةُ تحت مظلتها الواسعة، وتجمعُهم المحبةُ التي أبدًا لا تُخفق في إظهار نفسها، ويجمعُهم الوطنُ العزيز الذي يحمى ظهورنا تحت لوائه الخفّاق، ويجمعُهم الإيمانُ الحقيقىُّ بإله واحد عالٍ متعالٍ ينظرُ صوبَ عليائه الجميعُ؛ كلٌّ من خلال منظور قلبه وإيمانه وعقيدته.
في مصرَ البهيّة ينظّمُ المسيحيون موائدَ الإفطار الرمضانية لأصدقائهم المسلمين، وينظّم المسلمون موائدَ إفطار يدعون إليها أشقاءهم من غير المسلمين، فخلال الشهر الكريم تناولنا إفطارنا على العديد من «موائد المحبة»، التي نظمتها لنا كنائسُ مصريةٌ طيبة، مثلما تناولنا إفطارنا على موائد رمضانية نظمتها مساجدُ طيبة؛ تجاور على مقاعدها مسلمون ومسيحيون. وخلال أيام نحضرُ جميعُنا بإذن الله «إفطار العائلة المصرية»، الذي يدعو فيه الرئيسُ أبناءَ شعبه دون تمييز لتتأكد رسالةُ مصرَ الأصيلةُ والمتجددة أن: «الدين لله والوطن لأبناء الوطن». وتلك واحدة من إشراقات السطور المضيئة في «دفتر المحبة» غزير الأوراق، الذي أجمع لمحاتٍ منه في كتابٍ أعكف الآن على كتابته، غالبًا سيكون عنوانُه: «حكايا المحبة التي لا تسقطُ أبدًا».
تلك الموائدُ الرمضانية الجميلة التي تجمعُ أبناء الوطن على اختلاف عقائدهم، هي «الماصدق» لكلمة الرئيس السيسى، التي قالها بالأمس في خطابه عقب أدائه اليمين الدستورية لفترة ولايته الثالثة، حيث قال: «إن تماسك ووحدة الشعب المصرى هي الضمانة للعبور نحو المكانة التي تستحقها مصرُ». وهذا حقٌّ لأن انهيار المجتمعات لا يتحقق من رصاصة العدو الخارجى بقدر ما يتحقق من رصاصة الشتات والانقسام الداخلى.
واحدة من أجمل الموائد الرمضانية التي ننتظرُها من العام إلى العام كانت مع غروب شمس الأربعاء الماضى، حيث اجتمعنا على مائدة «مشيخة الطريقة العزمية» بحى السيدة زينب، بدعوة كريمة من سماحة الشيخ «محمد علاء ماضى أبوالعزايم»، شيخ الطريقة العزمية بمصر والعالم الإسلامى، رئيس الاتحاد العالمى للطرق الصوفية المصرى، وهو حفيد مؤسس الطريقة الصوفية العزمية، سماحة الشيخ «محمد ماضى أبوالعزايم»، رحمه الله. والتصوّف هو مقامُ الإحسان في الإسلام، وهو مقام السلوك الرفيع والأخلاق السامية وتطهير القلوب من الأدران لكى يكون المرءُ أهلًا لعشق الله، فكيفُ يعشقُ النورَ قلبٌ مظلم؟!. اللهُ نورٌ، والحبُّ نورٌ، ونقيضُ الحبِّ ظلامٌ وعتمة. ولا يجتمعُ ظلامٌ ونور.
لهذا لم نندهش حين قال المستشار «أمير رمزى»، مؤسس «راعى مصر للتنمية»، في كلمته على منصة المشيخة بعد الإفطار: إن سماحة الشيخ «علاء أبوالعزايم» قد طلب منه أن يدلّه على الطريق للتبرّع للكنيسة لمساعدة فقراء المسيحيين لكى يمنحهم من فضل الله. ولما تعجّب المستشارُ وسأله: «ولماذا لا تُقصرون مساعدتكم على فقراء المسلمين؟»، أجاب الشيخ الكريم: «نساعد هؤلاء ونساعدُ أولئك من فضل الله تعالى، وفضل الله لا ينفد». لم أندهش، فهذا ما أعرفه عن سماحة الشيخ «علاء»، مضىء القلب الذي ملأ حبُّ الله قلبَه، فراح يوزّعُ حبَّه على جميع الناس دون تفتيش في ضمائرهم. ومع هذا بكى قلبى فرحًا وأنا أسمع تلك الكلمات، ورحتُ أتأملُ تلك المنصة التي جمعت هذا الشيخ المتصوف الكريم: المضيف، إلى جوار الضيف: المستشار «أمير رمزى»، مُطلق «مؤسسة راعى مصر»، التي تجوبُ أرجاء مصرَ قرى ونجوعًا لمساعدة مَن هم تحت خط الفقر؛ فتشيد لهم المستشفياتِ والمدارسَ وترمم دُورَهم المتهالكة، وتزود بيوتهم بالماء والصرف الصحى، وتشترى لأطفالهم الملابس ومستلزمات التعليم، ولا تميّز في هذا بين مسلم ومسيحى، فمادام الفقرُ لا يُميز بين العقائد، ولا الجوعُ والمرضُ يُميزان، فيجبُ ألا يُميز الإحسانُ كذلك.
هذه صفحةٌ مضيئة من «دفتر المحبة»، تكونت سطورُها من منصة تجاور مائدة إفطار رمضانى. شيخٌ متصوف جليل يساعدُ فقراء المسيحيين مثلما يساعد فقراء المسلمين، يجاوره قاضٍ مسيحىٌّ أسس مؤسسة تنموية لمساعدة فقراء مصر دون أن يسأل عن عقائدهم.
ومن نُثار خواطرى:
...
ثَمَةَ شاعرةٌ
تجوبُ الصحارى
بُوْرًا
قاحلاتٍ
وجدبًا
لكى تزرعَ الرمالَ
تمرًا
وكَرْزًا
ترويها بماء قلبِها
ثم تأوى إلى جذعِ نخلةٍ
تُناجى الجبلَ الذي
حَسِبتْ صخورَه يومًا
تُغنّى
فما كان ما ظَنَّتهُ شدوًا
إلا
رجعَ صدى
شدوِها