بقلم: فاطمة ناعوت
هذه واحدةٌ من إشراقات «المسرح الكوميدى» العريق التابع لـ«البيت الفنى للمسرح»، الذى قدّم لنا على مدى يربو عن القرن، خوالدَ وفرائدَ كوميديةً يزدادُ بريقُها ورسوخُها فى وجداننا مع مرور السنوات. ومنذ تولّيه رئاسة «فرقة المسرح الكوميدى» قبل عامين، أنتج الفنانُ الجميل «ياسر الطوبجى» مجموعة من الأعمال الجميلة الهادفة أحدثُها مسرحية «العيال فهمت»، التى اختيرت لتُمثّل «البيت الفنى للمسرح» فى «المهرجان القومى للمسرح» 2024، الذى تشغلُ عروضُه الجميلة معظمَ مسارح مصر منذ نهاية الشهر الماضى وحتى ختامه يوم 17 أغسطس الذى تُعلن فيه أسماءُ العروض الفائزة.
«العيال فهمت» عرضٌ استعراضى موسيقى حاشدٌ بالثراء والرقى، يقدمه «مسرح الدولة»، على خشبة «مسرح ميامى»، يليقُ باسم مصر العريق فى صناعة المسرح، مثلما يليق بالأسرة المصرية المثقفة التى تربّت على رفيع الفن السمعى والبصرى. كيف، فى عرض واحد، تجتمعُ جميعُ خيوط المشاعر الإنسانية المتناقضة! يُمسُّ القلبُ بوخزة الوجع، فتدمعُ عيناك فى مشهدٍ، ثم يعلو صوتُك بالضحك الصافى فى مشهدٍ تال؟!.. معادلةٌ فنية صعبة وعصيّة أن يجتمع الاستعراضُ والموسيقىُ والغناءُ والرقصُ والدراما فى وشيجة الكوميديا! كيف لمجموعة من الفنانين من أعمار متباينة تتراوحُ بين الأربعين والسنوات الخمس، أن يتآلفوا وينسجموا على هذا النحو المدهش فيقدموا عملًا غنائيًّا استعراضيًّا يحمل كلَّ هذا القدر من البهجة حدَّ «الفارْس»، ومن المورال القيمىّ الأخلاقى الرصين؟! إنه، أولًا، الشغفُ بما يقدمون من فن، وإنها، أساسًا، عصا المايسترو الدقيقة التى يحملُها مخرجٌ فنانٌ اسمه «شادى سرور». العمل مستوحًى من الدراما الاستعراضية الخالدة Sound of Music «صوت الموسيقى»، الذى علّمنا أن الموسيقى قادرةٌ على ضبط الإيقاع البشرىّ نحو التفوق والامتياز. «الموسيقى» بطلٌ رئيس فى هذا العرض المدهش غزلها الموسيقار «أحمد الناصر» على أوتار العذوبة، والأغنيات الجميلة نسج كلماتِها الشاعرُ «طارق على» من خيوط الدلالات، والحوار الكوميدى والكتابة المسرحية أبدعها باقتدار «أحمد الملوانى». الديكور والإضاءة والملابس إلى جانب تصميم الرقصات الفاتن الذى رسمته مصممة الاستعراض «دارين وائل» أبطالٌ أساسيون فى هذه المسرحية التى سوف تُخلّدُ فى مدونة المسرح المصرى.
أجملُ الكوميديا تخرجُ من الشخص الجادّ العبوس. هذه عبارة صحيحة أؤمن بها، أثبتها الفنانُ «رامى الطومبارى» الذى جسّد دور الأب الصارم، كابتن طيار، المتجهم طوال الوقت، والذى حوّل بيته إلى معسكر قاس معزول عن العالم، من أجل حماية أولاده الثمانية بعد رحيل والدتهم. أما الفنان «عبدالمنعم رياض» فقد أدى ببراعة دور مُربّى الأطفال الطيب الذى عوَّضهم بحنوّه وحبه عن غياب الأم موتًا، وكذلك غياب الأب الطيار المسافر دائمًا، والذى حتى فى حضوره القليل كان غائبًا عن أولاده بمشاعره. حتى تدخلَ البيتَ الباردَ المربيةُ الوديعةُ «رغد» تحملُ جيتارها، التى جسّدتها ببراعة الجميلةُ «رنا سماحة» لتملأ البيتَ دفئًا وحبًّا ومشاعرَ وموسيقى، وتنجح فى وصل الأولاد بخيوط أحلامهم التى بترها الأبُ الجادُّ، الذى كان يظنُّ أن الصرامةَ وفرط الانضباط، دون مشاعر، هو الطريق الأمثل، بل الأوحد، لتنشئة الأبناء، وحمايتهم من شرور المجتمع.
شكرًا للبيت الفنى للمسرح، وشكرًا للمسرح الكوميدى، اللذين أنتجا لنا هذا العمل المسرحى الجميل الذى أتمنى أن تزوره كلُّ أسرة مصرية، وأن تُنظّم إليه الرحلاتُ المدرسية والجامعية، للوقوف على صحيح الفن الرفيع. شكرًا للمخرج الجميل «شادى سرور» ولجميع صنّاع هذا العمل العظيم: «إيهاب شهاب»، «رانيا النجار»، «أميرة فايز»، «منة الحسينى»، ومساعدى الإخراج والإداريين والفنيين، وجميع الشباب الموهوبين الذين لم يمثّلوا فقط بأجسادهم، شأن العمل الاستعراضى، بل مثّلوا بملامح وجوههم التى يطفرُ منها الشغفُ بالفن والمعايشة الحقيقية للحظة الدرامية، والذوبان الكامل فى الشخصيات المرسومة بدقّة لأفراد «الكتيبة» التى تنوّعت أحلامُهم. فهذا شغوف بالغناء، وهذه بتصميم الأزياء، وذاك شغوف بالرقص، وتلك بالكتابة الأدبية، وهذه بالرسم، وذاك بالعلوم والابتكار، وتلك غارقةٌ فى حكايا الأميرات الرومانسية، انتهاء بالطفل الموهوب «على شادى» الذى كان يتأمل كل ما يحدث من حوله ويحلّله على طريقته الخاصة فتطفرُ الكوميديا.
***
ومن نُثارِ خواطرى:
***
(قيثارة)
أنا المليحةُ
أحملُ قيثارتى
وأطيرُ بين الشجرْ
أقطعُ المحيطاتِ والوديانَ والصحارىَ
وفى سَلّتى
أُخبِّئُ قرابينَ
من شموسٍ وأمطار
أرفعُ الغيماتِ
فوق رؤوسِ المُتْعبين
وتحتَ أقدامِ القُساة
أنثرُ الموسيقى
علَّ نبتةً خضراءَ رهيفةً
تورقُ
فى القلبِ الجامدْ.