الزمن اللولبي

الزمن اللولبي

الزمن اللولبي

 صوت الإمارات -

الزمن اللولبي

بقلم : عبد الرحمن شلقم

 

الأعوام تتدحرج وتطرق باب الزمن المتحرك. السنوات أيام وشهور تتحرك، بحواس تتفاعل فيها موجات الوقت. الحياة ملاحم مركبة ممتلئة بكل ألوان ما تبدعه العقول، وما تنجزه عضلات الناس. في هذا القرن الحادي والعشرين، المحسوب بسنوات ما بعد المسيح عليه السلام، امتلأت الدنيا بحواس جديدة، وعضلات عابرة للأرض والسماء. وسائل الاتصال والتواصل كسرت ما كان حكراً على قشرة رقيقة من سكان الأرض الواسعة. تراجعت الأمية، واتسعت مساحة المعرفة. الكبار والصغار، والكتاب والقراء يعبّرون على الصفحات ذاتها، وكأن العالم صار قاعة رحبة، تجمع من يحمل أعلى الشهادات، ومن غادر لتوه فناء رياض الأطفال. تقنية الهاتف والفضائيات ورحلات الطيران الرخيصة، وصناعة السياحة، قلبت حسابات الوقت، وغيَّرت طول المساحات وعرضها. لم يعد العالم قرية صغيرة، بل صار مائدة متوسطة الحجم، يتحلَّق حولها البشر. العلم في هذا الزمن، هبة الوجود إلى الجميع، لكنه صندوق فيه بنفسج الأمل، ومعه متفجرات الخوف. الشعوب الفقيرة، ترى أضواء الرفاهية العابرة للصحارى والبحار، فتتحرك في وجدان شبابها، قوة الحلم المغامر. ينطلقون جماعات وفرادى نحو دنيا أضواء الحلم والوهم. يموت الآلاف عطشاً وجوعاً في الصحارى، ويغرق مثلهم في مياه البحار. الأوبئة الفتاكة لها سرعة تفوق سرعة ما تنتجه معامل الدواء، ويلتهم الوباء الملايين. الحروب لعنة النار الكامنة في الرؤوس، وفي رعشات النفوس، لا تغيب عن جبال الزمن ووهاده، تلتهم البشر من دون أن يعرف أغلب من يخوضها، دوافعها ومبرراتها. لعقود عدة نسي الناس سلاحاً اسمه النووي، اليوم تفوح رائحة سلاح الفناء هذا في تصريحات علنية تتوعد وتهدد. الحديث عن ضم دول وشراء جزر وبناء أسوار عالية على الحدود، تزفه وسائل الإعلام للناس، وكأنها تتحدث عن حفل فني ساهر. نعبر بوابة أخرى في عداد الزمن، وتنفتح صفحة جديدة، في مجلد له صفحات تكتبها حروف الأيام والشهور. لا نعرف أسرار ما ستزفه رياح الآتي إلى دنيانا، التي يهددها التلوث المرعب، والحرارة التي لا تتوقف درجاتها عن الارتفاع. جبال الجليد تفقد صلابتها، وتتماهى مع سيولة العقول، وتهدد اليابسة بالغرق. الجفاف والزلازل والسيول، تضرب في كل مكان. هل نحن من يعبث بالزمن، أم هي القوة اللولبية التي تلوي الجميع بتعرجات دوراتها؟ الفيلسوف وعالم النفس كارل يونغ، حلل شخصية المحتال، ويبدو أن الزمن هو أيضاً كذلك. منذ الأزل خاصم البشر الطبيعة، واستعبدوها بكل ما لهم من قوة، وسخَّروا كل شيء فيها لخدمة حاجاتهم ونزواتهم، لكنّ للطبيعة حدوداً في صبرها، وسترد والزمن هو ساحة المعركة الطويلة. عام جديد يأتينا وليس لنا سوى الاستسلام لعداده الرهيب، والحروب الطاحنة لا تلتفت إلى الوراء، وأنانية الأغنياء الأقوياء، تتغول وتضرب وتنهب بلا حدود. في كل ليلة رأس سنة ينفق الأغنياء الملايين، على الموائد الباذخة، والألعاب النارية، ويربط الفقراء الأحزمة على بطونهم الخاوية. كل عام يطرق باب زمننا، قادم يحمل في صناديق غيبه أحلاماً وآمالاً، لكنه يخفي في تلك الصناديق، ألغام الخوف والتوجس. نعبر الآن وسط العقد الثالث من هذا القرن، الذي يمتلك كثافة خاصة في كل شيء، وضمائرنا مثقلة بالألم مما تابعناه من إبادة وحشية، غير مسبوقة في غزة، حيث قتل الأطفال والكبار من النساء والرجال. فهل سيكون عامنا الجديد امتداداً لصواعق الإبادة الجماعية الرهيبة لشعب أعزل يعاني الموت والجوع والمرض والعطش؟ وماذا عن الحرب الكبرى في الطرف الآخر من الدنيا، حيث تدور الحرب العنيفة بين روسيا وأوكرانيا؟ مشهد غروب الوعي الإنساني، تراه العيون وإن غاب عن العقول القادرة على الفعل. لقد اعتقد الكثيرون أن التقدم العلمي، الذي اتسعت مساحته فوق الأرض، سيحقق السلام ويزيل الفقر والمرض، ويسكت السلاح وينقذ الأرواح، لكن عقول الساسة صارت لولبية، تدور حول مصالحها بأنانية لا تعرف حداً. العقل السياسي العالمي الجمعي، أسس منظمة الأمم المتحدة، لتكون محفلاً يجمع أمم الدنيا لتكريس السلام، ولجم العنف ومنع الحروب، وكتب الآملون وثيقة حقوق الإنسان، وحلم المستضعفون المقهورون، بالحرية والعدالة وسيادة القانون، لكن الاستبداد والقمع لا يزال يبطش بملايين البشر. السنون تتحرك في دورات الزمن، وتحمل في أحشائها مواليد حيوات جديدة، ويبقى الأمل حاضراً يفعل. للإنسان قوة لا يطالها الوهن، والعقول تبدع من دون توقف، ومثلما تشرق الشمس كل يوم، تلمع في العقول ومضات العلم والتطور، وصناعة قادم يقفز فوق عوائق الجهل والعنف وتخريب الطبيعة. الجيل الشاب الذي يرى بعيون المعرفة التي تتدفق عبر التقنية المعلوماتية الحديثة، ستكون له قدرة نوعية، على بناء عالم جديد، تصير فيه الحرية شهيق الحياة وزفيرها، ويهفو إلى السلام، الذي يضيء الدنيا بنعمة الرفاهية. في لولب هذا الزمن تتحرك قوة لا نعلم مداها، لكنه على الرغم من كل الهنات، سيكون الزمن الواعد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزمن اللولبي الزمن اللولبي



GMT 21:33 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

بائع الفستق

GMT 21:32 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

على هامش سؤال «النظام» و «المجتمع» في سوريّا

GMT 21:32 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

دمشق... مصافحات ومصارحات

GMT 21:31 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

السعودية وسوريا... التاريخ والواقع

GMT 21:30 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ورقة «الأقليات» في سوريا... ما لها وما عليها

GMT 21:29 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

موسم الكرز

GMT 21:28 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

إرهاب من نوع جديد

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 11:16 2018 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

صلاح محسن يشعر بالسعادة لارتدائه الفانيلة الحمراء

GMT 11:56 2015 الأحد ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

توقعات بتراجع أعداد الدب القطبي بنسبة 30% بسبب تقلص الجليد

GMT 23:53 2017 الأحد ,31 كانون الأول / ديسمبر

أحواض السمك تجلب الهدوء وتضفي جمالًا على حديقتك

GMT 17:42 2013 السبت ,07 كانون الأول / ديسمبر

الاحتفال بذكرى رحيل عمار الشريعى بإذاعة الشرق الأوسط

GMT 04:41 2015 الجمعة ,16 تشرين الأول / أكتوبر

الربيع يحل قبل 3 أسابيع في الولايات المتحدة الأميركية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates