الصراع على البحر الأبيض المتوسط

الصراع على البحر الأبيض المتوسط

الصراع على البحر الأبيض المتوسط

 صوت الإمارات -

الصراع على البحر الأبيض المتوسط

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

البحر الأبيض المتوسط الذي تحارَب فيه الكبار مبكراً، منذ البدايات لتأسيس إمبراطوريات عابرة للبر والبحر، ماء يمتد طولاً وعرضاً بين قارات ثلاث، أوروبا وآسيا وأفريقيا، مثَّل قلب الكرة الأرضية. كانت الهيمنة على هذا البحر، هي الدرجة الأولى في سلم السيطرة على مقاليد القوة العابرة للماء والتراب. منذ اختراع المراكب ذات ثلاثة الصفوف للمجاديف، كان البحر الأبيض المتوسط، غرفة عمليات القوة بكل أشكالها وألوانها بين القارات الثلاث.

الكاتب والصحافي الإيطالي الكبير، ماوريتزو موليناري، أصدر أخيراً كتاباً بعنوان «الصراع على البحر الأبيض المتوسط - لماذا يحتاج له الغرب وخصومه؟». موليناري ترأس تحرير مجموعة من الصحف الإيطالية الكبيرة، وكان مراسلاً لأهمها في بروكسل ونيويورك والقدس ورام الله وغيرها. عرف منطقة الشرق الأوسط، والتقى بساستها ومثقفيها. أصدر مجموعة من الكتب التي تناولت السياسات الأميركية في المنطقة، والحركات الجهادية الإسلامية، وغيرها. هذا الكتاب الذي صدر منذ ثلاثة أسابيع، فكك المشهد السياسي والعسكري الدولي، مرفقاً بخرائط تفصيلية ملونة للمنطقة، وأهداف كل المتصارعين في هذا البحر وحوله. حلل الكاتب أهداف الدول واستراتيجياتها وتكتيكاتها، وطبيعة الصراعات السياسية والعسكرية، الإقليمية والدولية، في هذا البحر التاريخي الرهيب وحوله.

في مقدمة الكتاب استهل المؤلف دراسته الموسعة، بالدور التاريخي الذي لعبه البحر الأبيض المتوسط في تشكيل بدايات التاريخ السياسي والديني في العصور الماضية، حيث وُلدت الأديان السماوية الثلاثة وتصارعت، ودور المتوسط في قيام الإمبراطوريات الكبيرة. كان مسرحاً للصراع بين المسيحية والإسلام، وقبلها بين روما وقرطاج، ومنه صارت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. وشهد المعارك الحاسمة في الحرب العالمية الثانية، حيث هزمت قوات الحلفاء بقيادة الجنرال مونتغمري، الفيلق الأفريقي في معركة العلمين الذي قاده الجنرال الألماني رومل. في خضم الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبعد سقوط جدار برلين، شهد البحر المتوسط معارك ساخنة بين أطراف مختلفة، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويقدم الكاتب خلاصة، مفادها أن أي تغيير في منطقة البحر المتوسط، يهزّ التوازنات الدولية المعقدة والحساسة. لهذا البحر مداخل ثلاثة لها أهمية خاصة. هي قناة السويس، وجبل طارق، ومضيق الدردنيل، ومن يسيطر على هذه المداخل يتحكم في مسارات التجارة العالمية. عامل آخر رفع درجة الحساسية، ووسع حلقات الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، وهو اكتشاف كميات هائلة من الغاز في أعماق هذا البحر. حرك هذا الاكتشاف، النزاع بين كل من تركيا واليونان وقبرص وإسرائيل ولبنان، وأيقظ عداوات قديمة وحديثة. أضف إلى ذلك أن هذا البحر صار الآن هو الطريق الرئيسية للمهاجرين غير النظاميين من أفريقيا إلى أوروبا الذين يدفعهم الفقر، وعلى أطرافه تتحرك المجموعات الإسلامية المتطرفة، من القرن الأفريقي إلى دول الساحل والصحراء.

المؤلف يغوص في السياسة المعيشة اليوم، وسيناريوهات الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، ولكنه لا يغادر أمواج التاريخ، التي لا تشيخ أو تهدأ في هذا البحر المحرك للصراع الدولي المزمن.

يكتب المؤلف أن صراع القرن الحادي والعشرين، يتحرك في هذا البحر وحوله. الولايات المتحدة الأميركية، والصين وروسيا، لها مصالحها الاستراتيجية الخاصة، المختلفة عن غريميها الآخرين في البحر المتوسط. ومنذ القدم رسم انتصار الرومان على قرطاج، مسار التاريخ والقوة، وكذلك انتصار المدن الإيطالية على العثمانيين في معركة ليبانتو، الذي أوقف سيطرة الأتراك على أوروبا المتوسطية، وشجاعة الأدميرال نيلسون التي أذلت نابليون بونابرت، وسيطرة الحلفاء على جزيرة مالطا التي مهدت لهزيمة الفيلق الأفريقي - الألماني في الحرب العالمية الثانية، بقيادة الجنرال مونتغمري.

ينتقل الكاتب إلى الصراع الإقليمي والدولي، الذي يدور في هذا البحر وحوله اليوم. الولايات المتحدة تتحرك بقوة مشاركتها العسكرية مع أوروبا في حلف «الناتو»، والصين بقوة الاقتصاد والتكنولوجيا، وروسيا بوجودها العسكري في كل من سوريا وليبيا. تركيا تطمح إلى استعادة موروثها التاريخي في المنطقة، أو ما تسميه بـ«الوطن الأزرق». أطراف إقليمية عديدة لا تغيب عن حلبة هذا الميدان الساخن أبداً. تركيا تتحرك باندفاع ديني سُنّي، وتنتهج سياسة البازار؛ أي التعامل مع الجميع. إيران تحرك أذرعها الطائفية الشيعية. ويضيف المؤلف أن القوى الإقليمية الأخرى تتدافع حول هذا البحر من أجل مصالحها واستراتيجياتها الوطنية، ولا نكاد نجد دولة واحدة في منطقة البحر المتوسط، إلا ولها وجود في ذلك الصراع الواسع. يقف الكاتب طويلاً عند محركات السياسة الأميركية في المنطقة، وتدخلاتها المباشرة، وغير المباشرة فيها، ويورد سياسات الولايات المتحدة في العراق، وسوريا، وليبيا، ومواجهتها لـ«داعش» في المنطقة. روسيا بوتين لها سياستها التي تعبر عن طموح قديم جديد، وحلمها المزمن للرسو فوق المياه الدافئة. اليوم تحقق ذلك لروسيا؛ فهي لها قوات عسكرية في سوريا وليبيا، وتمكنت من مد وجودها إلى دول الساحل والصحراء الأفريقية، بعد موجة الانقلابات العسكرية في بعض دوله، وسيطرتها على جمهورية أفريقيا الوسطى.

تناول المؤلف سياسات الدول الأوروبية المتوسطية، وعلاقاتها مع دول شمال أفريقيا، التي لم يغادرها غبار التاريخ الاستعماري. ويورد ما شهدته وتشهده العلاقات الثنائية بين دوله. لا توجد سياسة أوروبية واحدة في هذا البحر، ومع الدول الأفريقية جنوب الصحراء. أما عن السياسات العربية، فهي أيضاً لا تنظمها رؤية استراتيجية واحدة، ويقف المؤلف عند توجهات كل دولة منها، وأسهب المؤلف في تحليل سياسات مصر وإسرائيل وقطر وإيران والإمارات والسعودية. وتحدث عن طبيعة القيادة السياسية في منطقة البحر المتوسط، وقضية حقوق الإنسان، والإرهاب، والطاقة، والتغيرات المناخية، والإنفاق العسكري والتنمية. في هذا الكتاب غاص المؤلف في ماء التاريخ، ومعاركه القديمة، والصراع المزمن الذي لا يغيب عن هذا البحر الذي لعب دوراً مركزياً في رسم خرائط المكان والزمان. اليوم، هذا البحر هو غرفة عمليات سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية، تتحرك فيها القوى الإقليمية والدولية. الكاتب الصحافي ماوريتزو موليناري، قدم في هذا الكتاب عصارة خبرة طويلة، خلاصتها أن هذا البحر الأبيض المتوسط، يظل ميداناً للصراع الإقليمي والدولي، كما كان دائماً عبر التاريخ الإنساني الطويل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصراع على البحر الأبيض المتوسط الصراع على البحر الأبيض المتوسط



GMT 03:30 2024 الأحد ,22 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 03:11 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

تفّوق إسرائيل التقني منذ 1967

GMT 03:10 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

قد يرن «البيجر» ولا يُجيب

GMT 03:08 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

لبنان... الرأي قبل شجاعة الشجعان

GMT 01:24 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

قصة الراوي

GMT 01:32 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

طالبات مواطنات يبتكرن جهازًا للوقاية من الحريق

GMT 05:07 2019 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الفيصلي يقف على أعتاب لقب الدوري الأردني

GMT 08:12 2018 الأحد ,16 كانون الأول / ديسمبر

اكتشفي أفكار مختلفة لتقديم اللحوم والبيض لطفلكِ الرضيع

GMT 04:05 2017 الثلاثاء ,25 إبريل / نيسان

فريق "العين" يتوّج بطلًا لخماسيات الصالات للصم

GMT 04:55 2020 الثلاثاء ,15 أيلول / سبتمبر

أحمد زاهر وإبنته ضيفا منى الشاذلي في «معكم» الجمعة

GMT 18:24 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مجوهرات "شوبارد"تمنح إطلالاتك لمسة من الفخامة

GMT 05:40 2019 الأحد ,20 كانون الثاني / يناير

هبوط اضطراري لطائرة متوجهة من موسكو إلى دبي

GMT 22:49 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

منزل بريستون شرودر يجمع بين التّحف والحرف اليدوية العالمية

GMT 21:38 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

حامد وخالد بن زايد يحضران أفراح الشامسي والظاهري بالعين

GMT 04:11 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ظهور القرش الحوتى "بهلول" في مرسى علم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates