في أذهاننا أن الطبقية مادية فقط. بمعنى أن الطبقية هي التي تميز بين الأغنياء والفقراء. ولكن هل فعلاً الطبقية هي مفهوم مادي محض؟
إن التمعن في طبقات معنى الطبقية يقودنا إلى أبعاد أخرى يتوفر فيها معنى التمييز، وقد يكون يستجيب لمقومات فكرة الطبقية أكثر حتى من الطبقية بمعناها المادي. أليس تقسيم الناس اليوم إلى متعلمين وأميين نوعاً آخر من الطبقية المعرفية المقيتة، وأليس الأشد قسوة هو تداعيات الطبقية المادية ونفيها؟
ما شعور شاب فقير متحصل على شهادة جامعية وقارئ للمتنبي والمعري وابن رشد ومسكويه ونيتشه وسارتر وغيرهم من علماء العلوم الطبيعية والتجريبية والإنسانية والاجتماعية؟ وأفترض أنه قابض على أهم مورد من موارد الثراء. بل إنه مؤهل للخروج من طبقة إلى أخرى واكتساب أسباب الكرامة والفرص الاقتصادية الجيدة. إذن الثراء شعور وواقع معاً.
لذلك؛ فإن الطبقية الأكثر ايلاماً هي الطبقية المعرفية وهي ذات دلالة مضاعفة أولاً؛ لأن اكتساب العلم والمعرفة والتمكن من القراءة والكتابة هي مفاتيح تحقيق الذات والانخراط في البيئة الاجتماعية والعالم، إضافة إلى أن التعلم هو أهم ما يميز الإنسان، الأمر الذي يجعل من الأشخاص الذين يحرمون من الحق في التعلم ويقضون حياتهم في حالة أميّة في زمن الجامعات الضخمة، ويوصفون بالتلاميذ والطلاب ما يجعلهم أقل تحققاً إنسانياً وأقل استثماراً لملكة العقل التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات.
في الحقيقة إن الحديث عن الطبقية المعرفية التعليمية ليس في مستوى الحديث عن الطبقية المادية من حيث الكم أو حتى النوع. وهو ما يعني أن مثل هذه الطبقية الخطيرة شبه مهملة.
سنبسط الفكرة أكثر: إننا نتحدث عن الأمية وهي مشكلة كبرى لم تستطع الإنسانية التي غزت عالم الفضاء وقطعت أشواطاً مذهلة في العلم والاكتشافات أن تقضي عليها تمام القضاء.
لا شك في أن العالم متفطن إلى هذا الكابوس ومن سنة 1967 والعالم يُحيي بشكل منتظم اليوم الدولي لمحو الأميّة، ولكن مع ذلك فإنها لم تمحَ. طبعاً نحن هنا لا نتحدث عن الأميّة الجديدة المتعلقة بالرقمنة بل لا نزال في المستوى الدلالي الأول والمباشر لمعنى الأمية والمقصود بها التمكن من القراءة والكتابة. وباعتبار أن العالم سيحيي هذا اليوم الدولي بعد غد الأحد فإنه من المهم التذكير بأن 771 مليون شخص من الشباب والكبار غير ملمين بالمهارات الأساسية للقراءة والكتابة حتى يومنا هذا.
وكما ترون، فالمشكلة كبيرة جداً، وهي سبب مانع حقيقي لتحقق الكرامة الإنسانية وأهم عقبة أمام التنمية. ففي لحظة تاريخية تتقلص فيها حظوظ شاب صاحب شهادة جامعية لكنه لا يتقن الإعلامية واللغة الإنجليزية، فكيف سيكون حال شباب لا يمتلكون أبجديات القراءة والكتابة؟
ولا نجادل التحليل القائل إن الطبقية المادية هي منتجة لأشكال شتى من الطبقية، ومنها التعليمية والمعرفية، باعتبار أن حظ الفقراء من المعرفة أقل من الأغنياء، بخاصة أن مرحلة مجانية التعليم بالشكل الذي كانت عليه في الستينات والسبعينات والثمانينات تقريباً هي في خطواتها الأخيرة من الانقراض. فالفقر عقبة أمام كل شيء بما في ذلك التعليم الجيد واكتساب اللغات.
غير أن إعطاء الطبقية التعليمية حيزاً واضحاً في نقاشاتنا ومداولاتنا من شأنه أن يأخذنا إلى الشكل الأكثر خطورة من أشكال الطبقية ذات التداعيات السيئة على المستقبل، وقبل ذلك الحاضر.
ومن المؤسف أن الأمية لا تمس كبار السن أو الكهول فقط، بل إن خطورتها تكمن بالأساس في كونها تشمل فئات عمرية اجتماعية تمثل القلب النابض للمجتمع ولمستقبله، حيث إن نسبة الأطفال في عمر العشر سنوات الذين لا يمكنهم قراءة نص بسيط وفهمه قد ازدادت وانتقلت من 57 في المائة سنة 2019 إلى 70 في المائة سنة 2022، وهو ما يعمق من حدة هذه المشكلة من منطلق أن الأجيال القادمة مصابة في جزء منها بداء الأمية.
طبعاً من المفارقات أن يجمع الزمن الحضاري ذاته بين أمية ملايين من البشر وقنبلة الذكاء الاصطناعي.
السؤال: إلى أي حد فعلاً في سنة 2030 لن يظل أحد خلف الركب في ظل الأرقام المشار إليها والجهود المنخفضة الوتيرة المبذولة بحكم ما يعصف بالعالم اليوم من أزمات ومشكلات من كل لون ورائحة؟