فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون

فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون

فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون

 صوت الإمارات -

فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون

بقلم - جميل مطر

أقرأ أحيانا وأسمع كثيرا أن فى واشنطن الآن من يعتبر أن المرحلة الراهنة من حرب غزة صارت تستدعى تدخلا أمريكيا مختلفا بعض الشىء عن نمط التدخل خلال الشهور الخمسة الماضية. أما التبرير الرسمى المسرب إلى خارج دوائر صنع القرار، وأغلبها ــ وللحق فى حال ارتباك وشعور بالتعاسة ــ فيميل إلى اعتبار أن أطراف الصراع الحاد قد حققت جميعها انتصارات كبيرة أو ضئيلة فى جانب أو آخر، وهو الوضع الذى يستحق تدخلا مناسبا.
يعتمد هذا التبرير مبدأ تتبناه الدبلوماسية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ويقضى بأن أمريكا سوف تتعامل بطريقة مختلفة مع أطراف أزمة أنهكتهم الحرب أو فى حال تفاقم الضرر الذى حاق بمصالح أمريكا، أمريكا سوف تتعامل بمنطق أنهم جميعا حققوا انتصارات من نوع أو آخر وبدرجة أو أخرى. لنا فى مصر، ولا شك، تجارب لا نغفلها أو نتغافل عنها، تجربتنا مع هنرى كيسنجر مهندس الاستراتيجية الأمريكية، حين كان يتدخل لتقوية طرف ضعيف فى صراع، حتى يصبح هذا الطرف الضعيف أو المنهك طرفا لائقا وجاهزا ليستحق صفة من صفات الانتصار، وبالتالى تتحسن مواقعه التفاوضية وتتحقق فرصته للقبول بوقف القتال والشروع فى الاندماج فى العملية السياسية التى تنوى واشنطن احتكار الإشراف عليها. حدث هذا فى حرب السويس عندما أجبرت أمريكا إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب من سيناء والقناة وفرضت على مصر القبول بسيادة أقل على سيناء لفترة استمرت حتى نشوب حرب العبور. دول العدوان كانت منتصرة عسكريا ومصر منتصرة سياسيا. تدخلت أيضا فى حرب العبور بجسر جوى أنقذ إسرائيل من كارثة عسكرية كادت أن تكون محققة وقادت معركة وقف إطلاق النار خدمة لمصر. وفى المقابل فرضت على الطرفين مفاوضات أفرزت اتفاقيات سلام لا تزال عليها مآخذ غير قليلة.
• • •
كانت مثيرة خلال الأيام القليلة الماضية متابعتنا لتطورات الوضع فى حرب غزة، أو حرب فلسطين كما يجب أن تسمى، فى سعينا لتوقع اللحظة فى هذه الحرب التى تستوجب تدخل واشنطن لتغيير دفة الحرب أو بالأصح لمنع توسعها وتمددها نحو آفاق قد يستحيل عندها تحقيق الأهداف الرئيسة لهذا الصراع. أنا شخصيا صرت مع الوقت أستبعد احتمال أن تترك أمريكا الأمور فى الحرب وفى الشرق الأوسط عامة تتطور بالكامل نحو وضع لا تشارك فى صنعه لاعتقادى أن مدرسة كيسنجر لا تزال هى الحاكمة فى دوائر صنع القرار الاستراتيجى فى واشنطن، ولاعتقادى أيضا أن تغيرا ممكنا أو واقعا بالفعل صار يهدد ثبات واستقرار بعض القواعد السياسية الداخلية فى الولايات المتحدة نتيجة الأزمة الناتجة عن هذه الحرب.
لاحظنا جميعا على امتداد الأزمة إلى أى حد ذهبت الولايات المتحدة لتثبت لمختلف الأطراف موقعها من هذا الصراع. رسخت قواعد انحيازها ووضعت حدودا وهددت علنا وسرا بأفعال ضد من يتجاوز أو حتى يقترب من هذه الحدود. تشاورت مع دول عديدة فى الإقليم حول التمسك بصفة الإرهاب لحماس وبالتالى ضرورة إسقاطها نهائيا من معادلة الصراع. حاربت إلى جانب إسرائيل بكل أدوات الحرب ما عدا الأفراد، وأقولها بتحفظ. لم تخجل أمام حلفائها العرب لكونها منحازة. لم تأبه لغضب الشعوب العربية وشعب فلسطين فى المقدمة. جرجرت دول حلف الأطلسى إلى مواقف مبالغ فيها وخارجة عن مواثيق الحقوق والعدالة وحق تقرير المصير وانتهاء عصر الاستعمار، وكلها يفترض أن تكون من «ثوابت» وأخلاقيات السياسة فى الحلف الغربى.

• • •

اعتمدت أمريكا منذ بداية هذه الحرب سياسة الانحياز الكامل للموقف الإسرائيلى، مع احتفاظها بحقها فى قيادة هذه العلاقة. على الجانب الآخر اعتمدت إسرائيل على حقها فى قيادة يهود أمريكا فى أداء مهمة التأثير فى صنع القرار الأمريكى فى أمور شتى على رأسها مصالح إسرائيل. تتضارب الآراء حول نتائج صنع سياسة خارجية فى ظل ميوعة ومستويات هابطة من ازدواجية الولاء وقصص الفساد الأخلاقى والسياسى والأضرار الجانبية الناتجة عن هروب مجرمين للاحتماء بقوانين الوطن القومى فى إسرائيل.
حدث فى ظروف بعينها ونادرة أن خضع رئيس أمريكى لتوجهات صادرة من جهاز أو آخر فاتخذ موقعا غير منحاز لإسرائيل. حدث هذا فى كل مرة شعرت هذه الأجهزة بأن إسرائيل تجاوزت الحدود المتفاهم عليها، وأغلبها حدود لا يوجد مثلها فى منظومة حلف الأطلسى أو فى أى منظومة أخرى تقودها الولايات المتحدة. الشائع فى العالم بأسره، وهو ما تشجع على اعتناقه النخبة فى إسرائيل أنها هى التى تقود وليس أمريكا. تكسب إسرائيل قوة سياسية واقتصادية بانتشار هذا الزعم، بينما تتعمد أمريكا أن يعرف العالم أنها غير ممانعة أو معترضة. هذه الحقيقة تبدو أكثر وضوحا فى العلاقات مع دول العالم النامى وبخاصة مع دول الشرق الأوسط، الأمر الذى يثير كثيرا من عدم الفهم لحقيقة العلاقة بين أمريكا وإسرائيل.
لذلك فاجأت أمريكا كثيرا من المراقبين عندما وجهت الدعوة لجانتس عضو مجلس الحرب الإسرائيلى لزيارة واشنطن وإجراء محادثات مع كبار المسئولين متجاوزة نتنياهو بصفته رئيس الوزراء. كان واضحا أن بنيامين نتنياهو عازم على الاستمرار فى تصعيد خلافه مع واشنطن ولكن ما لم يكن واضحا للكثيرين هو عمق الأزمة الداخلية فى واشنطن وأمور أخرى تدخلت جميعها لإقناع صانع القرار الأمريكى أن إسرائيل لامست بالفعل الحدود المحظور الاقتراب منها، بل وربما تجاوزتها. من هذه الأمور:
أولا: صعدت الدول العربية ضغوطها على الحليفة الكبرى للضغط على إسرائيل لوقف إطلاق النار. تعلم هذه الدول أن المقاومة يساعدها وقف إطلاق النار. تعلم أيضا، وهو الأهم، أن هذه الحرب أشعلت فى الشعوب العربية نيران غضب لا عهد لها بمثلها. هذا الوضع، لو استمر، لهو أخطر على الاستقرار السياسى فى كل هذه البلاد من أى عامل آخر.
ثانيا: نجاح المقاومة رغم كل شىء كفيل مع الوقت بأن يثير تفاعلات مناوئة للسلطات الحاكمة فى دول عربية عديدة. من ناحية أخرى استعادت القضية الفلسطينية مكانة مرموقة، ولعلها المكانة العالمية الأمثل منذ نشأة الصراع حولها. هذه المكانة لا تخدم بأى شكل مصالح أمريكا ولا أهداف إسرائيل واليهودية العالمية ولا مصالح بعض العرب كما اتضح من سلوكيات هذا البعض خلال الأزمة، مثل السعى المكثف لإقناع أمريكا عن طريق مبعوثيها بضرورة العودة إلى «الوضع القائم قبلا» status quo ante بأى وسيلة وأى ثمن.
ثالثا: حذرت واشنطن جميع الدول من توسيع نطاق الحرب الدائرة فى غزة، وراحت تساند هذا التحذير بتحريك أسطول بعد آخر إلى شرق المتوسط وجنوب البحر الأحمر وزيادة القوة الإسرائيلية المحاربة وتقديم خدمات استخباراتية سهلت لإسرائيل عمليات اغتيال قادة عسكريين إيرانيين وفلسطينيين فى أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط. كل هذه الأعمال والتحركات والاغتيالات لم ترده إيران فاستمرت تدعم المقاومة والقضية الفلسطينية بل وصعدت تدخلاتها، إلا أنها لم تتجاوز الحدود الخائلية المتفق عليها مع الولايات المتحدة. تردد، على كل حال، أن إيران، مدعومة داخليا بصحوة ملموسة فى التيار المحافظ، هددت بالتصعيد إذا استمرت إسرائيل فى عمليات الإبادة. حمل التصعيد معنى التهديد بتجاوز الحدود المقررة سلفا بين واشنطن وطهران. حمل أيضا معنى احتمال انتقال الغضب إلى جميع شعوب الدول الإسلامية.
رابعا: دارت مناقشات وحوارات فى أوروبا وفى الشرق الأقصى أقلها معلن. لم يخف أغلب المشاركين فيها خيبة أملهم فى السياسة الأمريكية الراهنة. مرة أخرى يكتشف علماء السياسة والخبراء الأوربيون كثرة الشقوق فى جدران الحلف الغربى وأن الحرب ضد فلسطين عمقت هذه الشقوق. اكتشفوا أيضا الزيادة النوعية فى القوة الجمعية للصين وروسيا والدول المقتربة منهما، مستفيدة جميعها من حالة الصحوة فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كلها تأثرت بدفوعات ومداخلات جرت فى محكمة العدل الدولية وفى جلسات مجلس الأمن وبهذه الانطلاقة غير المسبوقة فى ميادين ومنصات الإعلام الإلكترونى. بمعنى آخر، نشهد على أنه بينما كان الغرب يتشرذم حول الموقف من الحرب فى غزة كان الآخرون يتوحدون حول هدف إنشاء مجتمع دولى مختلف المعالم.
• • •
بالتدخل الأمريكى الفاضح والواضح فى شئون إسرائيل الداخلية والحساسة يجازف الرئيس بايدن وكثيرون من أعوانه ومن المرشحين للكونجرس فى انتخابات الخريف بمواجهة صريحة وللمرة الأولى مع الجماعة الصهيونية الأمريكية. ليس هذا فقط ما يقلق المفكرين السياسيين فهناك على مرمى النظر أوضاع كثيرة سوف تتعرض للتغيير بسبب هذه الحرب الدائرة فى فلسطين أو فى أعقابها أيا كانت نتائجها. أجازف بقول يستحق النقاش الهادئ، أجازف فأقول أن أمريكا لن تقدر على استعادة «الوضع القائم قبلا» status quo ante سواء فى الشرق الأوسط أم فى إفريقيا أم فى فنائها الخلفى، بل ولن تقدر بحالتها الراهنة وبحلفها المنهك والمضطرب على المحافظة على الوضع القائم فى أغلب أنحائها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون فى الرواية الأمريكية كلهم منتصرون



GMT 05:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

يتفقد أعلى القمم

GMT 05:44 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا و«تكويعة» أم كلثوم

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

تحولات البعث السوري بين 1963 و2024

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الهروب من سؤال المصير

GMT 05:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا والنظام العربي المقبل

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 05:41 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

2024... سنة كسر عظم المقاومة والممانعة

GMT 20:41 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الإمارات تدين عملية الدهس التي وقعت في سوق بألمانيا
 صوت الإمارات - الإمارات تدين عملية الدهس التي وقعت في سوق بألمانيا

GMT 20:34 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ابنة أصالة نصري تتحدث عن معاناة عائلتها في ظل حكم الأسد
 صوت الإمارات - ابنة أصالة نصري تتحدث عن معاناة عائلتها في ظل حكم الأسد

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates