بقلم: جميل مطر
أقول إننا لو تركناهم ينفذون الخطط والمشروعات التى أعدوها لنا ولغيرنا، بل ولهم هم أنفسهم، لوجدنا أنفسنا بغير إرادتنا فى عالم غير عالمنا ونحو مصير غير ما كنا نود وكل بلادنا بحدود غير ما سبق ورسم لنا. أراهم وأرانا على النحو التالى:
أولا: دوليا. أرى نظاما دوليا يخطو متأرجحا بين مكونات وقواعد عصر هيمنة أمريكا على العالم، وبين مكونات ناشئة لعصر قطبية ثنائية أو تعددية وقواعد لها. هذه القواعد يجرى العمل حاليا على صياغتها بدأب من خلال توترات وعنف وعدم استقرار ومنافسة شرسة وحروب صغيرة عديدة وصل عددها فى الشرق الأوسط وحده عشرة صراعات، كلها وغيرها من طباع المراحل الانتقالية.
أرى أمريكا تخرج أكثر ارتباكا وانحدارا من تجربتها الأوكرانية وتجربة الإبادة الفلسطينية فى غزة والضفة الغربية، تخرج منهما فاقدة رصيدا مهما من الثقة المتبادلة والضرورية داخل الحلف الغربى. تخرج مثل ألمانيا مثخنة بجراح ناتجة عن سوء تصرف وانصياع لضغط صهيونى كلاهما شاركا فى خلقه قبل أن يستسلما له. تخرج، كما خرجت بريطانيا العظمى من عصرها الإمبراطورى منهكة وبنظام حزبى ونخبة حاكمة عاجزتين، كلاهما شوهته تجارب الانسحاب العسكرى والسياسى من المستعمرات ومواقع النفوذ وصعوبات المواجهة مع أقطاب صاعدة وثورة شاملة فى عالم الجنوب.
أرى فى كلا البلدين وبلاد أوروبية بوادر عواصف عنصرية جامحة. أرى وبكل الوضوح الممكن أزمات متلاحقة للديمقراطية، كنظام حكم، فى العالم بأسره وفى دول الغرب بصفة خاصة. أراها مثلا فى شكل فوز دونالد ترامب فى انتخابات هذا العام وفى الوقت نفسه فى شكل فوز جو بايدن ونظامه المستكين. أراها فى تضخم حال ونفوذ الشركات العظمى وفى الصعود المتسارع لتطبيقات الذكاء الاصطناعى. رأيتها جميعا تفوح فى جلسات ومناقشات مؤتمر دافوس.
أرى الصين تزداد قوة وتقدما اقتصاديا ونفوذا دوليا وأرى الجنوب بصفة عامة أكثر اقترابا منها وتفهما لسياساتها وأملا فى استمرار صعودها. أراها تزداد ثقة فى مكانتها الدولية وفى استمرار انحدار مكانة الولايات المتحدة. أراها جاهزة لتفادى الاصطدام بأمريكا ومستعدة بمزيد من الصبر ذى التكلفة الداخلية الباهظة لتأجيل المواجهة الحتمية فى موضوع تايوان. أراها أكثر حرصا فى التعامل مع الدول المشاطرة فى بحر الصين الجنوبى، الملعب الأهم للمنافسة بين الصين وأمريكا. أرى روسيا تستعيد الثقة بنفسها والقوة اللازمة للاحتفاظ بمكانتها كقطب من أقطاب القمة الدولية. أراها غير غافلة عن إرث ماضيها الإمبراطورى وحريصة على ابتكار أشكال مناسبة للنفوذ وبخاصة فى وسط وشمال آسيا والقوقاز وشرق أوروبا. أراها مستمرة فى صياغة أو تعزيز علاقات فى إفريقيا والبحر الأحمر وبلاد العرب. تعرف أن الحال فى معظم هذه البلاد العربية والإفريقية مرشح لتحولات كبيرة وتعرف أن دورا لها هناك ينتظرها.
●●●
ثانيا: إقليميا. أرى النظام العربى بسبب أزمته الراهنة وفشله فى الخروج منها، وتحت ضربات متعاقبة وضغوط خارجية يقترب من الانفراط. كان مثيرا للاهتمام والتحليل مراقبة ومتابعة مواقف دول النظام العربى من أزمة غزة. رأينا تناقضا ملفتا. أثبتت الأزمة أو كشفت عن ضعف شديد لدول النظام منفردة فى المواجهة بين الدول أعضاء النظام. اتضح أن هذه الدول منفردة أو مجتمعة لم تعترف أصلا بأنها فى وضع مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفى الوقت الذى أعلنت أمريكا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى أنها متحالفة مع إسرائيل فى مواجهة معلنة وصريحة لم تتمكن دول النظام العربى من التصريح بأن الأزمة بين غزة وإسرائيل تقع ضمن صراع أشمل وأعم وهو الصراع العربى الإسرائيلى. يظهر التناقض واضحا من إجماع دول النظام العربى على التمسك بهذا الموقف من الأزمة. أجمعت هذه الدول على رفض تهجير أهل فلسطين وعلى طلب وقف إطلاق النار وعلى عدم توسيع نطاق الحرب الدائرة. لكنى أظن، وأتفهم لو كان ظنى صحيحا، أن إسرائيل وأمريكا معها أفلحتا فى ردع الدول العربية مجتمعة أو منفردة بعد نجاحهما فى تدمير البنية التحتية لغزة ومحو المدن وقطع الكهربا والمياه ووسائل الاتصال. أمريكا الحليفة لمعظم الدول العربية كانت طرفا فى هذه الأعمال الحربية والسياسية والمتوحشة التى شنتها إسرائيل بإرادتها المستقلة أو بدعم كامل مسبق ومعلن من الحليف المشترك لكل من إسرائيل والدول العربية.
لم يكن موقف أمريكا من «فلسطين تحت الغزو» الاختراق الوحيد الخطير لحدود وعقيدة النظام العربى، كان هناك اختراق آخر لعله أهم لأنه يحدث من داخل النظام العربى. إذ إنه منذ أن استلمت مقاليد المقاومة المسلحة فصائل وجماعات وأحزاب اختلطت لديها وفى داخلها ولاءاتها وعقائدها. بفضل هذه المقاومة صارت إيران طرفا فاعلا فى صنع مصير النظام العربى، ولعلها باختراقها النظام العربى على هذا النحو الخطير، ساهمت فى تصعيد أهمية الرأى القائل بأن النظام الإقليمى العربى مهدد بالانفراط.
تعددت الاختراقات. اختراق إسرائيل برفضها الاعتراف بوجود شعب فلسطينى وتأكيد هذا الرفض بحرب مدمرة وحركة استيطان ضخمة وخرائط صريحة تلغى بها عروبة دول مشرقية مؤسسة للنظام العربى وأراضى ممتدة غربا حتى قناة السويس. اختراق إسرائيل بعد أن كان عاملا ساهم فى تأسيس النظام العربى فى الأربعينيات من القرن الماضى أصبح بتوحشه وبالتطور الحادث فى النظام الدولى وبالانحدار الأمريكى إلى حد الخضوع المهين لإسرائيل أهم عناصر تفكيك النظام العربى. أما اختراق إيران فمختلف نوعا وإن ظل مؤثرا عملا وفعلا لاعتماده على مواطنين ومؤسسات عربية وحاملا مسئولية تصدر المواجهة مع إسرائيل، وفى الوقت نفسه مطمئنا إلى علاقة بين إيران والولايات المتحدة يحيط بها الغموض المثير للاهتمام وكثير التخمينات. هناك أيضا اختراق تركى واختراق إثيوبى، كلاهما استفاد من حال الركود العربى، حال يثير الاعتقاد أو الأمل لدى دول الجوار بقرب انفراط النظام العربى وبالتالى سعيها لجنى ثمار هذا التطور المهم.
●●●
ثالثا: فلسطين. ليس خافيا أنهم فى إسرائيل وفى أمريكا يعدون أو يستعدون لفلسطين بما أطلقت عليه الصفقة القاتلة. يتحدثون بدم بارد عن دولة فى مستقبل ليس بالضرورة قريبا، دولة منزوعة السلاح، بمعنى دولة مفتوحة الحدود أمام إسرائيل لتفعل بها ما تشاء وقتما تشاء، دولة ناقصة السيادة يعنى لا حق لشعبها فى الدفاع عن نفسه، دولة مقطعة الأجزاء مثل قالب الجبنة السويسرية تشبها بجنوب إفريقيا فى زمن الأبارتايد، بمعنى آخر دولة محكوم على شعبها فى آخر المطاف بالهجرة أو العذاب والقمع.
المدهش فى الموضوع أن المخططين لمستقبل فلسطين يتحدثون عن ضرورة إصلاح الحكومة القائمة الآن فى رام الله أو إقامة حكومة بديلة مختارة بعناية من جانب إسرائيل مستعينة بدول جوار عربية. آخرون وهم حسب ظنى الأغلبية الحاكمة فى إسرائيل لا تخفى عزمها على إنهاء الصراع بمحو اسم فلسطين من خرائط السياسة فى الشرق الأوسط. لا يخفون هذا العزم بل تراهم فى الصور يتعالون على المبعوثين الأوروبيين والأمريكيين باستثناء اليهود الصهاينة منهم، حتى الرئيس بايدن صارت الكاميرات والشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تتعامل معه وتتحدث عنه باحترام أقل وبما لا يليق برئيس أهم وأقوى دولة.
هناك ما يشير إلى أن النخبة الإسرائيلية الحاكمة قررت أن يكون المستقبل للرئيس دونالد ترامب أو لجمهورى آخر متصلب إيذانا بعصر ذهبى إسرائيلى فى السياسة الدولية وبخاصة فى سياسات وقضايا الشرق الأوسط. هذا الاحتمال تزداد قابليته للتحقيق فى حال استمر الركود العربى واستمر انهيار الحدود السياسية والعقائدية والقومية للنظام العربى أمام سيل الاختراقات المتباينة من الخارج.