رغم أن الرواية المأساوية التي بدأت بهجوم «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل لم تكتمل بعد، فإن دعاة الفضيلة وفاعلي الخير يسارعون إلى كتابة تذييلاتهم اللاحقة. ويقول زعماء بريطانيا والاتحاد الأوروبى، إن الوقت قد حان لقبول إقامة دولة فلسطينية بصفة رسمية.
حتى إن أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، وجوسيب بوريل، قيصر السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي قد اقترحا أن يُمرر مجلس الأمن قراراً مُلزماً، مُضيفاً بذلك إلى القرارات الـ230 التي صدرت بالفعل بشأن هذه القضية.
في الأثناء ذاتها، وَعَد الجنرال إسماعيل قاآني، قائد «فيلق القدس» في الجمهورية الإيرانية: «بإعادة بناء غزة أقوى من ذي قبل بوصفها موقعاً متقدماً ضد الصهيونية العالمية».
الواقع أن إدارة بايدن في واشنطن تُصدر إشارات إيجابية حول «حل الدولتين» في حين تفكر ملياً في تغيير النظام، ولو كان في إسرائيل.
يؤكد بعض الخبراء أن حرب غزة قد دامت طويلاً ويجب أن تنتهي بسرعة قبل أن تتمخض بوضوح عن فائز وخاسر. ويتساءل أحد الخبراء عمّا كان هنري كيسنجر، كبير أقطاب الدبلوماسية الأميركية، ليفعل لإنهاء الحرب. وقد نسي أن كيسنجر كان ساحراً بارعاً، وكان يُحوّل الشيء إلى لا شيء، ولكنه كان يُقنع المتفرجين بأن العكس قد حدث. هل تتذكرون دبلوماسيته المكوكية، التي كانت كل مرحلة من مراحلها فرصة لالتقاط صورة تذكارية له؟ وماذا عن حملات «بناء الثقة» الترويجية التي تؤكد ضرورة تحويل الانتباه عن القضية الجوهرية المطروحة؟
يؤيد الخبراء في صحيفة «لوموند» الباريسية اليومية حل الدولتين كما لو كان نكهة مكتشفَة حديثاً. فهم ينسون أن ما يسمى «الحل» كان موجوداً منذ عام 1947 ولم يؤدِّ إلى شيء لأن الأطراف المعنية المباشرة لا تريد ذلك. وبوصفي مراسلاً، فقد غطّيت ما أُطلق عليها «محادثات السلام» من مؤتمر مدريد عام 1991 إلى أن تلاشت وتحولت إلى مهزلة محزنة. لأكثر من عقد من الزمان كان حل الدولتين على جدول الأعمال من دون أن يخبرنا أحد أين سوف تقع تلك الدول «الوهمية». كما يشعر الخبراء البريطانيون والأوروبيون بـ«القلق» إزاء طول أمد الحرب في غزة، ويحثون على القيام بتحرك غير محدد لتقصير أمدها.
إنهم ينسون أن محاربة الجماعات المسلحة التي ترغب في فرض أجندتها -أقولها على النحو السياسي السليم كما تفعل هيئة الإذاعة البريطانية- من خلال «الحرب غير النظامية»، لا يمكن تصورها من خلال مشهد مسرحي موجز. قد استغرق الأمر من البريطانيين 11 عاماً لإطفاء نار «المقاتلين غير النظاميين» في المالايا. كما استغرق الكفاح ضد قوات «الدرب المضيء» في بيرو نحو 30 عاماً. وفي كولومبيا، استغرق الأمر 20 عاماً حتى استئصال ميليشيا «إم - 19». وكان أداء القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) أفضل كثيراً من حيث الصمود والقتال لما يقرب من 40 عاماً. كما تمكنت أوروغواي من وأد حركة «توباماروس» الشيوعية في غضون 5 سنوات. ونجحت الهند جزئياً في تهدئة «المناضلين من أجل الحرية» في ناغالاند بعد حرب دامت 40 عاماً، في حين لا تزال تواجه عدواً أكثر تشدداً وعناداً في كشمير. وتقاتل تركيا حزب العمال الكردستاني منذ أكثر من 30 عاماً. وفي بورما، يخوض «المناضلون لأجل الحرية من حركة كارين» حرباً ضد الحكومة العسكرية الحاكمة في رانغون منذ نصف قرن تقريباً.
إن الادّعاء بأنك «مناضل من أجل الحرية» لا ينبغي أن يعني رخصة ممنوحة للقتل متى شئت. حتى «المقهورون» لديهم واجبات معينة ويجب أن يلتزموا ببعض القواعد المرعية، فكما أثبت التاريخ، يمكن أن يكون استبداد المستضعف مُهلكاً كاستبداد الظالم سواءً بسواء.
في عام 1962، وصف الرئيس جون كينيدي التمرد بأنه التهديد السائد للمصالح الأميركية. ورأت مذكرة أعمال الأمن القومي رقم 124 الصادرة عن حكومة كينيدي بتاريخ 18 يناير (كانون الثاني) 1962، أن التمرد هو شكل رئيسي من الصراع السياسي - العسكري الذي لا يقل أهمية عن الحرب التقليدية. وجعل كينيدي دعم «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» مشروطاً بالتزام مجموعة من القواعد، لا سيما عدم مهاجمة الأهداف المدنية. وكان الفرنسيون مستاؤون بشدة إزاء موقف الولايات المتحدة، لكنه أجبر «جبهة التحرير الوطني» على التوقف عن زرع القنابل في المقاهي، والشروع بالتصرف على أنها حزب سياسي يسعى لتحقيق هدفه من خلال القنوات السياسية والدبلوماسية.
والسؤال اليوم: لماذا عندما لا يُفرض حد زمني على الحرب التقليدية إلى أن يظهر المنتصر، ينبغي أن تخضع الحرب ضد جماعة متمردة لمخادعات المدة والتقويم؟ كان هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل عبارة عن «رازيا» أو إغارة، وهي كلمة إيطالية دخلت معظم اللغات الأوروبية. وفي واقع الأمر، أصل كلمة «رازيا» هو الكلمة العربية «غزوة»، التي تعني الهجوم فجأة، ومن دون محاذير، على مجموعة واحدة من الأهداف على أمل القضاء على الخصم.
كان إغراق «الطرّاد لوسيتانيا» خلال الحرب العالمية الأولى في مايو (أيار) 1915 بمثابة إغارة أو غزوة، تماماً كما كان هجوم «بيرل هاربور» في 7 ديسمبر (كانون الأول) 1941. لقد دفعت هاتان الخطوتان الولايات المتحدة إلى حربين عالميتين. كذلك، كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة عبارة عن 4 هجمات منسقة. وقد أدت كل واحدة من هذه الغزوات إلى تدمير الجناة، وفي بعض الأحيان، كما حدث في هجوم 7 أغسطس (آب) على هيروشيما وناغازاكي، أو القصف الشامل على مدينة دريسدن، بقدر أعظم من الغضب.
ولم يولِّد الثأر بعد تلك الإغارات تعاطفاً مع الجناة. ولم يخرج الناس فيما تسمى الديمقراطيات في مَسيرات لوقف العمل ضد أولئك الذين أغرقوا «لوسيتانيا»، وقصفوا «بيرل هاربور»، وحوّلوا جزءاً من لندن إلى أكوام من الأنقاض.
لم تحتجّ الشخصيات البارزة من جامعات مثل «هارفارد» و«برينستون» عندما شنت الولايات المتحدة «حربها على الإرهاب» للانتقام من هجمات 11 سبتمبر.
لا أحد يُنكر أن الفلسطينيين عانوا معاناة كبيرة لأكثر من 7 عقود متتالية، ولكن هل السبيل إلى إنهاء معاناتهم أو التخفيف منها على الأقل هو إعفاء منظماتهم السياسية التي فرضوها على أنفسهم من التقيد بالحد الأدنى من القواعد الأخلاقية حتى لو لم يكن خصمها يردّ بالمثل دائماً؟
إن التعامل مع القضية الفلسطينية كأنها استثناء من كل القواعد كان سبباً في إلحاق ضرر عظيم بالفلسطينيين. لقد أصبحوا أول شعب في التاريخ تتجمد لديه أوضاع اللاجئين لأربعة أجيال متعاقبة. أنتجت الحرب العالمية الثانية أكثر من 30 مليون لاجئ حصلوا جميعهم على مساكن جديدة خلال عقد من الزمان. وأدى تقسيم الهند إلى 14 مليون لاجئ، مرة أخرى، وأُعيد توطين جميع اللاجئين في أقل من عقد من الزمان. ومنذ عام 1959 طُرد أكثر من 10 ملايين كوبي من وطنهم واستقروا في أكثر من 10 دول، لا سيما الولايات المتحدة.
هل من المعقول أن تكون هناك مخيمات للاجئين حتى في غزة التي كانت خالية من الاحتلال الإسرائيلي لعقدين من الزمان؟ أو في الضفة الغربية التي تحكمها السلطة الفلسطينية؟ هل من الإنسانية تحويل اللجوء إلى مهنة تكون فيها «أونروا» صاحبة حق الامتياز؟
هل يعرف أولئك الذين يشجعون حركة «حماس» عبر الخروج في المَسيرات المؤدية لها كم نسبة الفلسطينيين الذين تمثلهم الحركة؟ والأهم من ذلك، ما إذا كان أولئك الذين يدعمونها يوافقون أيضاً على الإغارة في 7 أكتوبر؟
ترتكب إدارة بايدن خطأ كبيراً من خلال ترقية «حماس» ضمنياً على أنها شريك شرعي عبر الحلفاء الإقليميين، ومن ثم خلق الوهم بأن إغارة 7 أكتوبر لا تزال قادرة على إنتاج مزيد من التأييد على الأقل.