فوكوياما وترامب

فوكوياما وترامب!

فوكوياما وترامب!

 صوت الإمارات -

فوكوياما وترامب

بقلم - عبد المنعم سعيد

فى الثامن من نوفمبر الجارى نشر فيلسوف التاريخ الأمريكى «فرانسيس فوكوياما» مقالًا فى صحيفة «الفاينانشيال تايمز» بعنوان: «ما الذى أطلق له ترامب العنان وماذا يعنى لأمريكا؟». فى المقال أعلن الرجل الذى نشر فى بداية التسعينيات من القرن الماضى كتابًا كانت له أصداء بعيدة بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، أن فوز ترامب ليس أمرًا عرضيًّا كما جرى انتخابه أول مرة، وإنما هو تعبير عن تحول تاريخى قوامه «هزيمة الليبرالية». حسب قوله إن النتيجة التى تحققت باكتساح لأغلبية المجمع الانتخابى المعبر عن الولايات والتصويت الشعبى المعبر عن الجماهير، وما صاحبهما من تفوق جمهورى فى مجلسى الشيوخ والنواب حقق لترامب ما لم يتحقق للرئاسة الأمريكية منذ وقت طويل يمكنها أن تقود إلى تغييرات فى السياسات الخاصة بأوكرانيا أو الهجرة ولكن قيمتها أكبر من ذلك حيث تسجل رفضًا حاسمًا من الناخبين الأمريكيين لليبرالية والطريقة الخاصة التى جرى بها فهم «المجتمع الحر» كما تطورت منذ ثمانينيات القرن الماضى.

مثل هذا القول الحازم ليس جديدًا على الفيلسوف الشهير؛ فما إن سقط سور برلين ومعه الحرب الباردة والاتحاد السوفيتى حتى كان فرانسيس فوكوياما يعلن «نهاية التاريخ»؛ ولم يكن ذلك اعتقادًا يخص واحدًا من الفلاسفة، بل كان نظرة شائعة جعلت بقية العالم تتساءل عما إذا كان قد بقى لها دور فى صياغة المستقبل. وبشكل عام فإن عقد التسعينيات من القرن الماضى كان مبشرًا بهيمنة غربية مقلقة نتيجة العولمة والتقدم؛ وحتى عندما جاءت حروب البوسنة وكوسوفو والأزمة الاقتصادية الآسيوية فقد كان الظن أنها مجرد عقبات صغيرة تقف أمام مسيرة مظفرة. ولكن لم تكن المعضلة التاريخية واقعة فقط عند أعتاب المؤمنين بالتقدم الذى يقوده العالم الغربى؛ وإنما جاءت أيضًا من جانب المتشككين الذين سرعان ما بدأوا البحث عن عدو آخر تحت اسم «الخطر الأخضر» لكى يحل محل «الخطر الأحمر» المهزوم.

.. ورغم أن صمويل هنتنجتون تحدث فى «صراع الحضارات» عن ثمانى حضارات متصارعة فإن المعنى الذى بدأ ضمنيًّا وانتهى صريحًا بأنه صراع بين العالمين العربى والإسلامى والغرب لم يكن ممكنًا سلخه عن رموزه ومضامينه الدينية والتاريخية. أحداث الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية كانت الواقعة التى فجرت ما كان مسكوتًا عنه منذ فترة طويلة وعلى مدى عقد من الزمان تبلورت حرب عالمية من نوع جديد. فقد كان الغرب مصرًّا على أن هناك هجومًا كاسحًا على القيم الغربية؛ وكان المسلمون يعتقدون أن العولمة والتغريب والأمركة كلها أسماء معبرة عن أمر واحد هو ما عانى منه المسلمون تحت اسم الصليبيين والاستعمار والإمبريالية والصهيونية.

كل هذه التطورات دفعت فوكوياما إلى التراجع عن نظريته معلنًا انتصار «هنتنجتون» الأقرب للجدل التاريخى- الديالكتيك- الذى لم يصل إلى نهاية. الإقدام الحالى للإعلان عن نهاية لليبرالية يبدو مغامرة أخرى واستنتاجًا متعجلًا للانتخابات التى أفرزت ترامب مرة أخرى للساحة السياسية الأمريكية. «الليبرالية» هنا هى مبدأ مبنى على الاحترام المتساوى لكرامة الأفراد من خلال حكم القانون الذى يحمى حقوقهم ومن خلال الأدوات الدستورية المتوازنة بين السلطة وتدخلها فى حقوق الأفراد. هذا المعنى التقليدى تعرض خلال العقود الماضية إلى نوعين من «المُربِكات أو Disruptions» أولهما بزوغ مبدأ «الليبرالية الجديدة أو Neoliberalism» ذات الطابع الاقتصادى الذى أعطى القدسية للأسواق وقلل من قدرة الحكومات على حماية هؤلاء الذين أضيروا من التغيرات الاقتصادية. وفى الواقع فإن العالم أصبح أكثر غنى بصورة جماعية؛ بينما فقدت الطبقة العاملة الوظائف والفرص. وهكذا فإن السلطة تحولت من المواقع التى استضافت الثورة الصناعية فى الغرب إلى آسيا ومناطق أخرى من العالم النامى. وثانيهما هو ارتفاع شأن سياسات «الهوية» حيث باتت الاهتمامات «التقدمية» التى كانت تركز على الطبقة العاملة تنتقل إلى الأقليات العرقية والمهاجرين والأقليات الجنسية. أصبحت سلطة الدولة تُستَخدم ليس فى خدمة العدالة النزيهة، وإنما لكى تدفع نتائج اجتماعية وسياسية لتلك الجماعات.

فوز ترامب هنا يبدو اتجاهًا معاكسًا لهذه التحولات، وهو ثورة من الذين اقتربوا من الطبقات العاملة ولغة الشارع على نخبة ليبرالية منعزلة عن حركة الجماهير؛ وفى هذا ينضم فوكوياما إلى طابور طويل ممن كانوا يرددون نفس الأقوال عن «المؤسسة الشرقية»- أى التى توجد شرق الولايات المتحدة على المحيط الأطلنطى- والآن فإنهم يضيفون لهم الواقعين على المحيط الباسفيكى. وباختصار حيث توجد الجامعات الكبرى ومراكز الفنون والفكر الرئيسية وكافة أشكال أودية السيليكون التى توالدت خلال العقود الأربعة الأخيرة مع الثورات العلمية والصناعية التى أسست لمستقبل العالم الذى نراه. سياسيًّا كان ذلك هو الزمن الذى عنده انتهت الحرب الباردة وأصبح ممكنًا للعالم التواصل المادى والمعنوى والأخلاقى. ومع التسليم بأن مثل ذلك كان يعانى كثيرًا من التطرف والاستعلاء على طبقات اجتماعية ودول نامية؛ وأنه أخذ كثيرًا من أشكال المحاضرات التعليمية لطبقات وشرائح اجتماعية متعددة داخل أمريكا وخارجها؛ فإن مثل ذلك لا ينبغى أن يستخدم كغطاء أولًا لدفن تاريخ من الجريمة والعبث السياسى والبلطجة الاجتماعية التى قدمها دونالد ترامب ورفاقه طوال الأعوام الماضية ضد المرأة والملونين والأديان الأخرى التى لا يمكن أن تنسى. سجلات المحاكم الفيدرالية والمدنية تشهد بالكثير من الوقائع والإدانات بين الجنح والجنايات وتفادى دفع الضرائب وأحيانًا النصب المباشر كما حدث مع جامعة ترامب لتعليم العامة الطريق الصحيح لإدارة الأعمال غير المأسوف عليها. الأخطر من ذلك أن خطاب ترامب الأول بعد نجاحه فى الانتخابات احتوى تعاملًا مباشرًا مع المؤسسات الأمريكية الرئيسية، وما أسماه «الدولة العميقة» لا يعنى محاولة جديدة للإصلاح السياسى للدولة، وإنما هو محاولة صريحة لإخضاع المؤسسات لرئيس الدولة مع تفكيك مقوماتها وقدراتها كما فعل ترامب من قبل مع الحزب الجمهورى الذى تحول من حزب إبراهام لينكولن العاتق للعبيد والمحافظ على الاتحاد الأمريكى إلى حزب ترامب الذى يستبد بالجميع وينتظر الولاء والطاعة من الجميع.

«الترامبية» السياسية كانت واضحة منذ اللحظة الأولى لدخول ترامب المباشر للحياة السياسية الأمريكية عندما انتظم فى الانتخابات التمهيدية الأولى للحزب الجمهورى ويعمد إلى الإهانة الشعبوية لـ١٧ مرشحًا جمهوريًا الواحد بعد الآخر، غير مستثن لا رجلًا ولا امرأة. وفى الجولة الحالية التى انتهت بفوزه بالرئاسة فإنه لم يستنكف فقط المشاركة فى الانتخابات التمهيدية للحزب، ولكنه عمد إلى إخضاع المرشحين والمرشحات الواحد بعد الآخر لمبايعته والخضوع له. الشهود على ترامب وحاشيته وما لديه من خلل سياسى واجتماعى فاضح لا تأتى من أعدائه أو خصومه؛ ولكنها مسجلة فى فترته الرئاسية الأولى من تخبط وعجز عن القدرة على العمل من خلال المؤسسات الأمريكية؛ وهى مشهود عليها من خلال القيادات الرسمية ممن عملوا معه فى البيت الأبيض أو خارجه أو حتى كانوا من قيادات الحزب الجمهورى الذى عرفه لينكولن وأيزنهاور وريجان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فوكوياما وترامب فوكوياما وترامب



GMT 05:55 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 05:54 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 05:54 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الهُويَّة الوطنية اللبنانية

GMT 05:53 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

عقيدة ترمب: من التجريب إلى اللامتوقع

GMT 05:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

صعوبات تواجه مؤتمر «كوب 29» لمكافحة التغير المناخي

GMT 05:45 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بين الديمقراطيين والجمهوريين

GMT 05:45 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

واقعية «سرقات صيفية» أم واقعية «الكيت كات»؟

إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة - صوت الإمارات
ظهرت الفنانة إلهام شاهين في افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، وهي مرتدية فستانا أزرق طويلا مُزينا بالنقوش الفرعونية ذات اللون الذهبي.وكشفت إلهام تفاصيل إطلالتها، من خلال منشور عبر حسابها بموقع التواصل "فيسبوك"، إذ قالت: "العالم كله ينبهر بالحضارة الفرعونية المليئة بالفنون.. وها هي مصممة الأزياء الأسترالية كاميلا". وتابعت: "تستوحى كل أزيائها هذا العام من الرسومات الفرعونية.. وأقول لها برافو.. ولأن كثيرين سألوني عن فستاني في حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.. أقول لهم شاهدوه في عرض أزياء camilla". يذكر أن فستان الفنانة المصرية هو نفس فستان الكاهنة "كاروماما" كاهنة المعبود (آمون)، كانت الكاهنة كاروماما بمثابة زوجة عذراء ودنيوية للمعبود آمون. وهي ابنة الملك (أوسركون الثاني) الذي حكم مصر خلال الأسرة الـ 22...المزيد

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates