بقلم - عبد المنعم سعيد
هناك شخصيات تأتى إلى حياة الإنسان ليس من بوابة المفاجأة أو العلاقات المشتركة أو زاوية مهنية، وإنما تتسلل من خلال نوافذ عديدة تكون كلها مفاجئة في البداية، ولكن بعد ذلك فإن المتوقع يكون مفاجأة هو الآخر. من هؤلاء د. حسام بدراوى، زميل هذه الصفحة في الكتابة الأسبوعية، حيث يمارس هوايته في الحوار مع الأجيال الشابة، وجميع مَن يعتبرهم «الحالمين بالغد». أحاديثه في العادة تأخذ منهجًا «سقراطيًّا» يبدأ بطرح التساؤل عن ماهية الموضوع، فكما جاء في أول كتابه «القوانين»، فإن أفلاطون- ربما نقلًا عن سقراط، المسمى الغريب الأثينى- طرح السؤال الخالد والجوهرى: ما مصدر القانون، وهل هو الآلهة أم الإنسان؟، بات هذا هو السؤال «السياسى» الأول في التاريخ بعد ذلك، ولكن هذا السؤال بات لدى البدراوى هو كيف يحدث التغيير؟، ونقطة البداية هي سؤال آخر: ما الحلم؟. في حديث مع الأستاذ نشأت الديهى في قناة «تن Ten» يعطى الأحلام مهمة ليس فقط صنع الأهداف، وإنما أيضًا أن تحقيقها ممكن، وفى حياتنا؛ ويضرب مثالًا مهمًّا يبدأ من جده الذي عاش زمن «الكارتة» (عربة يجرها حصان)، وأبيه الذي عاش زمن السيارة، والآن له وأولاده فإن الزمن بات في الطائرة والسفر إلى الفضاء. الأحلام تُولد وتتحقق، ولكن جسر تحقيقها هو «السياسة» و«الإرادة السياسية» لمَن بيدهم أدوات الحكم. هذه المسيرة الطويلة من الحكمة قطعها طبيب التوليد والميلاد عبر العقود الثلاثة الماضية حينما دخل إلى انتخابات مجلس النواب، لأول مرة، ونجح فيها. أيامها عندما لاحظت الملصقات وجدت فيها ما هو مختلف من حيث الصور والشعارات عن منافسيه في الأحزاب التقليدية- الوفد- والحكومية- الوطنى الديمقراطى. كان نجاحه في هذه الانتخابات مُحمَّلًا بوثيقة أن هذا النجاح سوف يكون الأخير لأن الاختلاف والتميز السياسى والجيلى لم يكن ليسمح- في إطار من الاستقرار على أداء الحكم والمعارضة- بتواجد جيل آخر.
ولكن التاريخ يسير بطرق معقدة، وسواء في البرلمان أو في لجنة سياسات الحزب الوطنى، أو في الساحات العامة التي أتاحتها وسائل الإعلام المختلفة والمتنوعة، فإن حسام بدراوى كان يشكل علامة متميزة قائمة على منهج إصلاحى عملى مع «كاريزما» صقلتها المعرفة بالعالم وثقافته وتجاربه. بشكل ما لم يكن جزءًا مما سُمى وقتها الحرس الجديد، وإنما هو جزء من جماعة إصلاحية حاولت قدر الطاقة أن ترشد نظامًا نجح حرسه القديم في أن يقوده إلى التهلكة. أذكر أننى قلت له ذات يوم إنه يمثل «قماشة» رئيس للوزراء، ومع خجله واحمرار وجهه، لم أحصل على أكثر من ابتسامة. وبالفعل، فإنه في الدقائق الأخيرة من نظام الرئيس حسنى مبارك وقع الاختيار عليه من رئيس الدولة أن يقود عملية إنقاذ النظام، ولكن الوقت كان متأخرًا كثيرًا. ما بعد ذلك اختلطت الحياة المصرية مع ثورتين، وفى الثانية- ٣٠ يونيو ٢٠١٣- فإن طريق الإصلاح بات ممكنًا وظهر مكتوبًا في الوثائق الرئيسية للدستور ورؤية مصر ٢٠٣٠، التي كان البدراوى واحدًا من المساهمين فيها. وعلى مدى قرابة عقد تقريبًا، لم يتوقف عن القول والتبشير والتحليل والكتابة، وكل ذلك بعملية منظمة للنشر و«الإتاحة» لجيل الشباب أولًا ثم بقية الأجيال بعد ذلك. كتابه عن «الحالمين بالغد» وآخر كتبه «حوارات مع الشباب لجمهورية جديدة» يمثلان حزمة كبيرة من الأحلام، والتوصيف الدقيق للظروف والأحوال، وكيفية عبور عقباتها وتحفيز أصولها، وتشجيع السعى لها.
الكتاب الأخير جاء مصادفة متزامنًا مع ما بدأ مؤخرًا من «الحوار الوطنى» من خلال حوار سياسى صريح وجرىء حول مفهوم جديد دخل إلى الحياة المصرية تحت عنوان «الجمهورية الجديدة». تأصيل المفاهيم عادة ما يكون مهمة المثقفين وفلاسفة الأحزاب السياسية، ولكن البدراوى يأخذه إلى إطار العبور من الأحلام إلى الواقع الذي يجعل الأحلام والأمانى «ممكنة». ويحدث ذلك عندما يتم تطبيق «الوصايا العشر» التي تخص النظام السياسى للدولة، والتغيير الثقافى والسلوكى للمصريين، والتغيير الهيكلى في الاقتصاد المصرى، وإصلاح الجهاز الإدارى للدولة، والحفاظ على البيئة، والإصلاح النوعى والفكرى لمؤسسات العدالة وإنفاذ القانون، وتحديد الدور المصرى الإقليمى والدولى، ودعم القدرات الدفاعية المصرية، وتنشيط المجتمع المدنى، والتحكم في نمو ونوعية وتوزيع المواطنين.
كان ذلك هو المدخل إلى الإسهام في إقامة الجمهورية الجديدة، وبعد ذلك فإن الحلم ليس مُعلَّقًا في الهواء، وإنما هو قابل للتحقُّق على الأرض بالاجتهاد والتماس العلم للتجارب الأخرى في العالم، والتصميم السياسى على تحقيق ما حققته أمم غيرنا من قبل. المنهج الفلسفى الحاكم في الكتاب، وكل ما يتحدث به البدراوى هو نظرية «التطور Evolution»، التي تقوم على أن الإنسان منذ وقوفه على قدميه وخروجه من عموم المملكة الحيوانية إلى الدائرة الإنسانية المستمرة خلال الأعوام الثلاثين ألفًا الأخيرة أثبت أن العقل الإنسانى قادر على إدراك حالات جديدة من العلم والمعرفة وأشكال الحياة، التي انتقلت بنا باستمرار إلى عوالم جديدة بعضها اكتشف القارات، وبعضها الآخر أخذ بالإنسان إلى كواكب وأجرام بعيدة. عند عتبات هذه التغييرات الكبيرة توجد مصر الآن، والقضية كيف نستفيد من قوة الدفع الجارية لكى نجعلها انطلاقة كبرى في «جمهورية جديدة»؟. الجديد هنا ليس فقط لباسًا من ملابس العيد، أو في الشكل وليس المضمون، وإنما هو تجديد واختراق لمستقبل آخر بقوة العلم والتعليم والثقافة، والاستغلال الأمثل للثروة وليس التوزيع غير الحكيم للفقر.ويُقال دائمًا إن «الشيطان يكمن في التفاصيل» التي تحول الأحلام إلى حقائق، ولكن الحقيقة أيضًا هي أن الملائكة لها مكان كبير في التفاصيل عندما يتعلق الأمر بالكثير من منصات التغيير التي استخدمها البدراوى في منهجه للتغيير. كان منها ليس فقط الدخول في الانتخابات والتمثيل النيابى، وإنما وضع خطابه الإصلاحى على مائدة منصة «المنافسة العالمية». ذات مساء، اتصل بى، وقد اشتدت بنا الصداقة، ناقلًا سعيه إلى إنشاء المجلس الوطنى للتنافسية، وقيامه مع آخرين بدراسة واسعة حول الكيفية التي تكون بها مصر أكثر تنافسية مع العالم أجمع. انتهت الدراسة إلى أن تنافسية مصر تبدأ عند قناة السويس ومحورها الشامل الممتد إلى نهر النيل. أيامها، أفضيت له بتجربة سابقة لى عندما جرَت «المفاوضات متعددة الأطراف» في عملية السلام التي جرت خلال تسعينيات القرن الماضى. وقتها، تردد الحديث عن إقامة «المثلث الذهبى» مكونًا من إسرائيل والأردن والدولة الفلسطينية الوليدة (كانت الأحلام واسعة)، وكان رد الفعل فريقًا مصريًّا لدراسة القضية توصل أيضًا إلى أن مفتاح التنافسية المصرية هو قناة السويس ومحورها، وكان قائد السفينة السفير رؤوف سعد. أخبرت د. حسام بدراوى بما جرى، وبعدها فإن الكتاب يتضمن تفاصيل لقاءات تسعة أجراها، تحاور فيها كافة التخصصات الفنية والدبلوماسية لكى تضيف إلى الحلم الوطنى قوة تنافسية إضافية. الآن بات الحلم حقيقة، وإرادة يمكنها ليس في مشروع واحد فقط، وإنما في آلاف منه تليق بمصر المعاصرة.