بقلم - عبد المنعم سعيد
بات متفقًا عليه أن السنوات الأولى من العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين لم تكن رحيمة بالدول العربية؛ وفيها جرَت الهَبّات والثورات وما سُمى في عمومه «الربيع العربى».
وقتها، وقفت دول غربية كثيرة وهى تتوقع أن ما بات معروفًا بـ«الاستثناء العربى» من الموجة الديمقراطية في العالم التي تلت انتهاء الحرب الباردة قد مضت إلى غير رجعة، وبعدها سوف يتوالى ميلاد ديمقراطيات عربية يُشار إليها بالبنان. ما حدث فعليًّا هو أن «الربيع» جاء على موجتين: الأولى وقعت بين عامى ٢٠١٠ و٢٠١٢؛ والثانية بين عامى ٢٠١٩و٢٠٢٠؛ وفى كلتيهما خرجت حشود جماهيرية ضخمة تحتج على نظم سياسية قديمة وصلت إلى طريق مسدود سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.
وسرعان ما تحول الربيع إلى شتاء قارس أخذ بلدانًا عربية إلى العنف والحرب الأهلية، وفى بلدان أخرى قفزت حركات الإسلام السياسى إلى السلطة قاضية على أساس الدولة المدنية، وفى بلدان ثالثة حاولت الممارسة الديمقراطية في الانتخابات، وكانت النتيجة حصيلة من الفوضى والشلل أو العجز عن إدارة الدولة وتوقف مؤسساتها التنفيذية والتشريعية عن العمل. الشواهد كثيرة على أن العالم العربى مر بفترة من «عدم اليقين» والشك في كل شىء، حتى ظهر أن الدول الملكية نجحت في صد الموجة، وأكثر من ذلك نجحت دول الخليج العربية في حماية البحرين من التدخلات الإيرانية؛ وحينما حققت مصر الخلاص من حكم الإخوان في ٢٠١٣ كان في ذلك بداية انعكاس الموجة الأولى. الموجة الثانية واجهت الظروف الصعبة للجائحة، ونتائج الحرب الأوكرانية، فبات الموقف كما هو ظاهر في العراق والسودان ولبنان من عجز عن ممارسة الحكومة والسلطة السياسية لمهامها. ولكن ومع الفشل السياسى متعدد الأبعاد، فإن الإصلاح بات ضروريًّا لمواجهة واقع صعب في ناحية، والمنع من ناحية أخرى لعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل.
أطلقت الدول العربية، التي تمكنت من الصمود في وجه عاصفة الربيع العربى، عمليات إصلاح واسعة النطاق برؤى وضعت عام ٢٠٣٠ هدفًا لتحقيقها. وما يعنيه هذا، في النهاية، هو أن الدول العربية التي اختارت الإصلاح الشامل قد وضعت أقدامها على بداية طريق القرن الحادى والعشرين وتقنيات وصناعات وعلوم هذا القرن. ويسير مسار الإصلاح الشامل في عدد من الدول العربية، ليس بنفس الطريقة أو وفق نهج أو أيديولوجيا واحدة، بل في إطار السياق التاريخى الخاص بكل مكان. ولكن ما جمع الدول العربية كان مجموعة من السمات، كانت أولاها التأكيد على «الدولة الوطنية» باعتبارها الوعاء الذي يحتوى جميع «المواطنين» مهما تنوعت قبائلهم أو دينهم أو مذاهبهم أو أقاليمهم، وكان ذلك إلى حد كبير «ثورة» في التفكير العربى يضع الدول العربية أخيرًا فيما حدث في التاريخ الإنسانى وشكّل ما بات معروفًا بالدولة «القومية» أو Nation State، التي باتت أساس «النظام الدولى» في التجربة العالمية. كان هذا التعبير الأخير قد بات أسيرًا لأيديولوجيا «القومية العربية»، التي احتفظت بصفة القومية لقيام الدولة العربية الموحدة، والتى رغم عدد من التجارب الوحدوية قد انتهت جميعها إلى الفشل. كان ذلك أيضًا ثورة على الفكر «الإسلاموى»، الذي تبنى فكرة «الخلافة الإسلامية» باعتبارها العباءة السياسية الممثلة للدول ذات الغالبية الإسلامية من إندونيسيا في أقصى جنوب شرق آسيا حتى المغرب في شمال إفريقيا. كانت مسيرة التاريخ تقود إلى الدولة الوطنية «القطرية» بالتعبيرات العربية الذائعة، وهى القادرة على صياغة المصالح الوطنية، وفى نفس الوقت العودة إلى أزمان قديمة بدأت فيها جذور الدولة الوطنية في الولاء الإنسانى لجماعة بشرية حدث أنها تلازمت في الخطوب والفرص عبر التاريخين القديم والحديث.
ثانيًا: بعد الدولة الوطنية، ودعوة تطورها التاريخى، بات استيعاب الجغرافيا أساسيًّا لاكتساب إقليم صفة «الوطن»، ومن هنا لا يكاد يكون هناك بلد عربى شرع في عملية بلوغ واختراق حدود الدولة. لم تعد هناك مسافات بعيدة، ولا اعتبار لما يُسمى «بوارًا» وجدبًا، والرمل والصحراء صارت كثيرًا من «السليكون» والمعادن، وواحات بعيدة أصبحت مشروعًا لحاضرات قريبة. المشروعات العملاقة وتكنولوجيات السفر ونقل البضائع قربت من أركان الإقليم، وفى السعودية جذبت الخليج العربى لكى يحتضن البحر الأحمر وخليج العقبة؛ وانتقلت مصر من النهر الخالد إلى ٣٠٠٠ من الشواطئ المصرية في البحرين الأحمر والأبيض وخلجان العقبة والسويس. وثالثًا: باتت مشروعات البنية الأساسية واسعة النطاق أداة هذا الاختراق الإقليمى الواسع وتسليحه بإمكانيات التطور والنماء، وإذا كان المشهد في المغرب أو الأردن، ومصر أو السعودية، فإن تغيرات التاريخ والجغرافيا رابعًا أعطت أسبابًا لتجديد الفكرين الدينى والمدنى، ومعهما دوافع لتجديد المؤسسات.
خامسًا: الإصلاح هكذا حالة متعددة الأبعاد، ولكنها لا تستمر ولا تأتى ثمارها إلا بكثير من الاعتدال للفكر ورفض التطرف ليس فقط في الساحات الداخلية للدول، وإنما في ساحاتها الخارجية. القول الشائع دائمًا هو أن دول الإصلاح تسعى إلى «تصفير (من الصفر)» الصراعات والمشاكل؛ وفى حالات المنافسة الطبيعية يكون التشاور قائمًا يمتص المرارات وينزع أشواكًا هي من طبيعة الأمور بين الدول. ولكن دول الإصلاح بحكم طبيعتها التنموية تخلق شبكات من العلاقات القائمة على مصالح أمنية وسياسية واقتصادية مشتركة تكفل المسيرة وتسهل عمليات التنمية وتعالج المطبات العالمية والإقليمية. «السلام الإبراهيمى» كان صورة مختلفة عن السلامين المصرى والأردنى مع إسرائيل. هذا الأخير كان عملية اختراق إقليمية وعالمية لتغيير الأحوال من جذورها، وحاول الرئيس جيمى كارتر أن يضفى عليها صفة «الإبراهيمية»، ولكنها شاحت عنها إلى أمور استراتيجية وكونية تناسب مزاج الشعوب والعامة. السلام الأخير كان صورة مختلفة، صُممت منذ البداية على هندسة دقيقة للمصالح المشتركة، وهذه بطبيعتها قابلة للنمو والتخارج. الهجوم الفلسطينى الشرس عليها مع الهجمات المعتادة من الراديكاليين العرب سهلت الأمور على القائمين العرب على السلام، فقد تركوا القضية «المركزية» لأهلها يمارسون فيها ما يشاءون من اعتياد.
أشكال جديدة من الدبلوماسية والسياسة أخذت طريقها إلى الساحة الإصلاحية؛ تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية لم يفصل بين البلدين، وإنما قرب من بعضها البعض حينما خلق مشروعات كبرى لتنمية شمال غرب المملكة في إقليم «العلا» لكى تلتقى مع التنمية في شمال شرق الجمهورية المصرية في سيناء لكى يقدما حزامًا سكانيًّا جنوب فلسطين وإسرائيل والأردن. وتخطيط الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان فتح مجالًا واسعًا لمنتدى شرق البحر المتوسط لكى يجمع بين فلسطين وإسرائيل والأردن وثلاث دول أوروبية في تجمع اقتصادى تكون مصر هي المركز فيه والمُعبِّئة للموارد لصالحها وصالح جميع الأطراف. كل ذلك، ولا تزال القصة في أولها، وحدودها المعروفة رؤى ٢٠٣٠، ولكن تواريخ الرؤى التنموية لا تلبث أن تضع سقوفًا زمنية جديدة تكون أساسياتها قد استُكملت واستقر مكانها. كل ما سبق هو الاستراتيجى، وما عدا ذلك تفاصيل التحركات فيها ومواجهة مطباتها تكتيكية، تنتهى بمجرد وضع سقوف زمنية وجغرافية جديدة