بقلم - عبد المنعم سعيد
يجتاحنى قدر غير قليل من الارتباك الفكرى فور صدور «مذكرات» فى الساحة الثقافية والسياسية المصرية. من ناحية، فإن هناك قدرًا كبيرًا من رد الفعل السريع من قِبَل مفكرين وكُتاب يكون فى الأغلب محتفيًا وفرحًا بالإضافة الجديدة إلى المكتبة المصرية. وهنا تكون الحالة المُلِحّة دائرة حول السؤال: ما الذى يمكن إضافته إلى ما قيل من فائدة؟، ومن ناحية أخرى هناك القليل الذى يُقال حول علاقة المذكرات العاكسة لتجربة زمنية سابقة فى الواقع المصرى الحالى وعما إذا كنا أمام استمرارية تاريخية فى النجاح أو الإخفاق؛ أو أننا على العكس أمام حالة من الانقطاع والانتقال من حال إلى حال آخر. المذكرات هذه المرة لا تدور حول التاريخ الدبلوماسى المصرى، أو التأريخ لأدوار شخصية سمحت لها الظروف بمباشرة المشاركة فى وقائع انتقالية مصرية من عصر زعيم إلى آخر. هى من ناحية أو أخرى نوع من الشهادة الصادقة على مشاهد تاريخية مختلطة بتركيبة شخصية تحكى أصول التكوين والنظر فى قضايا مهمة. مذكرات د. رؤوف غبور «خبرات ووصايا» ليست استثناء من هذه القاعدة العامة، ففيها عودة إلى الأصول العائلية، التى نبعت هذه المرة من الهجرات الشامية إلى مصر؛ وهى تختلف عن تلك الواردة من أعيان الريف المصرى، التى شكّلت ما سماه ليونارد بايندر «الشريحة الثانية» المؤثرة فى الحياة السياسية المصرية، ولكنها لا تملك صولجان الحكم وعزيمته. الأصول المختلفة نسبيًّا بالهجرة تحمل معها قدرًا من المغامرة والمخاطرة، التى تليق بموضوع المذكرات عن الرأسمالية المصرية، والتى تختلف بديناميكيتها عن تلك المُحاطَة بأقدار كبيرة من الاستاتيكية فى العمل الدبلوماسى أو الوظيفى فى بيروقراطية الدولة المصرية أو تنظيماتها السياسية. تلك المغامرة تبدو من اللحظة الأولى، وفى سن السابعة المبكرة، فى واقعة «البسبوسة»، التى أوردتها جميع العروض للمذكرات بحكم طرافتها وما تقدمه من البداية المبكرة فى مجال «البزنس»، والتى يمكن فيها للمهارة أن تحول القليل إلى كثير، والفحم إلى ذهب.
ولكن المذكرات تأتى فى وقتها تمامًا، حيث الحديث جارٍ عن «القطاع الخاص» ووثيقة ملكية الدولة، والوعود الكثيرة حول تفعيل الدور وتشجيع الاستثمار. وللأسف، فإن هناك القليل من الدراسات العلمية عن الطبقة الرأسمالية فى مصر منذ الفتوح الأولى التى تمت على يد مؤرخين اهتموا بالطبقة العاملة فى مصر وفى سياقها جرى ذكر الطبقة الرأسمالية، وما قامت به القديرة د. أمانى قنديل عن جماعات رجال الأعمال، فى إطار دراسات المجتمع المدنى المصرى، وسامية سعيد، فى بحثها «مَن يملك مصر؟!.. دراسة تحليلية للأصول الاجتماعية لنخبة الانفتاح الاقتصادى فى المجتمع المصرى ١٩٧٤- ١٩٨٠». الخلاصة من كل ما سبق كانت وجود درجة من درجات الاستمرارية، التى انبثقت من وجود طبقة الأعيان المصرية فى منتصف القرن التاسع عشر، والتى وإن جاءت من ملكية الأرض الزراعية، فإنها انتقلت تدريجيًّا مع القرن العشرين إلى الصناعة والخدمات، وانضمت إليها جماعات المهاجرين الشاميين، الذين برعوا فى الفنون والصحافة. الغريب أن الفنون المصرية من سينما ومسرح وأدب لم يكن موقفها حميدًا من الرأسماليين المصريين، اللهم إلا مَن كانوا قبل ثورة يوليو، كما جاء فى «ليالى الحلمية» و«صنايعية مصر». وعلى العكس جاء تسجيل انفتاح الرئيس السادات سلبيًّا فى معظمه، وفى كثير من أفلام الثمانينيات كانت النهاية مرتبطة بنهاية غير حميدة لأحد رجال الأعمال. وفى العموم كانت روافد الإدانة قادمة من اليسار واليمين على السواء، الأولين نقدًا للاستغلال، والآخرين لأنهم يأخذون مصر فى اتجاهات تحررية غربية.
د. رؤوف غبور يعبر عن جيل جديد من رجال الأعمال بدأ حياته العملية مع النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضى، واستمر معنا خلال العقود الأربعة التالية، التى فى نهايتها أخذ فى نقل السلطة الاقتصادية فى مؤسساتهم إلى الأبناء، الذين فى العادة حصلوا على درجات عالية من التعليم الراقى فى الجامعة الأمريكية، وتلتها دائمًا واحدة من الجامعات المرموقة فى الغرب. المسيرة تعكس الكثير من الشقاء فى مواجهة البيروقراطية المصرية، التى لا تكف عن التأكيد على حماسها تجاه توظيف طاقات القطاع الخاص من ناحية؛ والمهارة التى اكتسبها هذا القطاع الخاص الوطنى بشدة فى التعامل مع هذا الواقع الصعب. ما يلفت النظر هنا هو أن المذكرات تعكس فى نهايتها بداية النضج فى الطبقة الرأسمالية المصرية مع تطبيق «ثلاثية الصعود: الشركات المالية، والبورصة، والإدارة الحديثة»، وهذه بدورها تشمل «المؤسَّسية» والاستخدام الماهر للتكنولوجيا، والتعامل مع الاستثمارات الأجنبية والتعلم منها. النضج هنا لا يشمل فقط الإنتاج والاستثمار والتشغيل ونمو الأحجام المالية والصناعية؛ وإنما أكثر من ذلك الإدارة الرشيدة والفاعلة للمؤسسات الخيرية. حول هذه الأخيرة، وفى معظم المذكرات، فإن الكاتب يدفع بلمسات إنسانية لا يمكن تجاهلها، خاصة فى الفصل الأخير، حينما أتى دور الزوجة الفاضلة «القديسة»، فيجد القارئ نفسه فى مَسّ مباشر من ملائكة.
فى نهاية المذكرات نجد أنفسنا أمام واقع مر يلخص حال الرأسمالية المصرية المعاصرة، وفى غمار ما يقدمه من نصح لكل «العاملين فى الصناعة والتجارة والبزنس»، يقول: «مصر لن تتقدم بدون شركات ضخمة، ولن تنمو هذه الشركات بدون العمل المؤسَّسى. أتمنى أن أرى قريبًا ٢٠٠ أو ٣٠٠ مؤسسة مصرية تعتمد المؤسَّسية فى الإدارة. حاليًا أستطيع التأكيد أنه لا توجد فى مصر أكثر من عشر مؤسسات اعتمدت هذا المنهج». هذه الحقيقة الصادمة ربما تحتاج خلال المنعطف الحالى للاقتصاد المصرى والمشروع الوطنى فى التقدم والحداثة دراسات عديدة، وتناولًا إعلاميًّا، وانعكاسًا فنيًّا وأدبيًّا حول حالة الرأسمالية المصرية والقطاع الخاص، الذى يشتد عليه الطلب هذه الأيام والتعرف على المعوقات الواقعة فى طريقه. أعلم أن اتحاد الصناعات المصرية لديه الكثير من الدراسات والبرامج التى تتعامل مع هذا الموضوع؛ وأذكر أن أحد رجال الأعمال المرموقين راح يعدد لى ما حققه زملاء له فى تحديث الصناعة المصرية، وكان د. رؤوف غبور واحدًا منهم فى مجال النقل وصناعة السيارات، ولكن الظاهرة كانت فى النهاية محدودة، حتى إنه عندما كانت الدولة فى عهد وزارة د. كمال الجنزورى الأولى تبدأ فى عرض مشروعات كبيرة للمشاركة لم تكن القدرات ولا الإمكانيات كافية لدى القطاع الخاص. مضى على ذلك أكثر من ربع قرن الآن، ولكن الحصيلة لا تزال محدودة.
التعامل مع ذلك لا يكون إلا من خلال توسيع نطاق الطبقة الرأسمالية المصرية من خلال حل مارجريت تاتشر لتوسيع دائرة مالكى الأسهم فى مصر بطرح مؤسسات عامة ومدن ذكية؛ أو خصخصة الكثير من الأصول العامة فى الزراعة والصناعة والخدمات لشركات قائمة تحقق الإدارة الرشيدة والحوكمة والتناغم مع تنفيذ وتطبيق رؤية مصر ٢٠٣٠ فى جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مذكرات غبور تُغنى الكثير من الفكر والثقافة الرأسمالية فى مصر، وفيها دعوة كامنة لكل رجال الأعمال فى مصر إلى أن يسهموا فيها.