بقلم - عبد المنعم سعيد
وقت الكتابة لم تكن مباحثات وقف إطلاق النيران في غزة قد أنجزت اتفاقاً في القاهرة، كل ما نعرفه هو أن هناك جولة أخرى من المفاوضات سوف تجري في الدوحة، وما نعرفه أكثر أن إسرائيل بدأت هجوماً كبيراً على الضفة الغربية تصدت له مجموعات من مقاتلي «فتح» و«الجهاد الإسلامي». لاحظ هنا أنه قبل أسبوع كانت الحرب الإقليمية منتظرة بعد أن هدد «حزب الله» بالانتقام لاغتيال فؤاد شكر، وإيران هددت برد فعل قاسٍ للانتقام من اغتيال إسماعيل هنية. انتهى الفصل بضربة إسرائيلية مبكرة لـ«حزب الله»، ورد الحزب بقصفات صاروخية ومسيّرات. أعلن الطرفان أنه حقق أهدافه (!) وكفي القتال في هذه المرحلة. ولكن القتال ظل مستمراً في غزة أو في الضفة الغربية، وبعد أن كان البحث عن وقف إطلاق النار يجري في جبهة واحدة بات ضرورياً البحث في أكثر من جبهة بعد إعلان الحوثيين أنهم سوف يقومون بالانتقام لتدمير ميناء الحديدة من قبل إسرائيل. المصادر الأميركية على تعددها تؤكد أن وقف إطلاق النار في غزة مسألة ضرورية تريدها إدارة الرئيس بايدن أن تكون جزءاً من رصيده المشرف. ولكن الساري هو سيناريو مفاوضات وقف إطلاق النار الذي يجري على ثلاث دفعات كل منها ستة أسابيع، يجري في الأولى منها وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والمحتجزين، ورفع درجة تقديم الإغاثة إلى غزة. وفي الثانية يستمر وقف إطلاق النار، وتبادل ما تبقى من الأسرى والمحتجزين ومعهم جثامين القتلى، ويتم التفاوض على وقف إطلاق النار الثالث الذي عنه تتغير طبيعة المفاوضات من إطفاء حريق حرب إلى إضاءة طريق سلام!
كل ذلك السيناريو الذي لم يبدأ بعد سوف ينافسه سيناريو آخر وهو اتساع نطاق الحرب، وبدلاً عن جبهة واحدة في غزة، وعدد من الجبهات في الإطار الإقليمي؛ فإن الحرب أخذت اتجاهاً توسعياً في الضفة الغربية، حيث لم يكن واضحاً عما إذا كانت ستكون جبهة دائمة مكملة لجبهة غزة، أو أنها مجرد غارة سوف تسكت بعدها المدافع. المدهش أن إيران التي صرحت من قبل بسيناريو الانتقام القاسي من إسرائيل طرحت سيناريو آخر يرتبط بالسلاح النووي الإيراني، حيث تستأنف المفاوضات مرة أخرى مع الولايات المتحدة. المرشد علي خامنئي صرح بأنه لا يوجد هناك مانع من التفاوض مع الخصوم؛ وما يُشتم من التصريح أن إيران تريد التفاوض مباشرة مع واشنطن، ليس فقط على السلاح النووي، وإنما على الحروب الجارية في المنطقة. ليس معلوماً حال السلاح النووي الإيراني في هذه المرحلة، وإلى أي درجة أصبحت إيران قريبة من السلاح النووي بما تقوم به من تخصيب لليورانيوم. هذا السيناريو عكس ما كان متوقعاً من سيناريو الحرب الإقليمية التي تقلب المنطقة كلها رأساً على عقب، حتى ولو كانت إيران هي المفتاح في كليهما.
وسط هذا الازدحام من السيناريوهات المعقدة لا يوجد توجه محدد أو سيناريو يعيد ترتيب الأوضاع في المنطقة، بحيث لا تكون هناك بداية إلا لوقف إطلاق النار أولاً يسمح بالتقاط الأنفاس؛ وثانياً يحضر لمؤتمر إقليمي يسمح بالتعامل مع القضايا المتشعبة للحرب الجارية بالفعل. لقد سبقت الدعوة لحل مشاكل الإقليم عن طريق دول الإقليم ذاتها العاقلة والحكيمة، التي هي الآن على صلات مع إيران، وبالطبع الولايات المتحدة، وعدد لا بأس فيه منها دول في حالة سلام مع إسرائيل. هذا السيناريو يبدو صعباً، ليس فقط لأن هناك سيناريوهات أخرى، وإنما لأن هذه الأخرى لم تحرز تقدماً، فلا أوقفت إطلاق النار، ولا قدمت إغاثة، ولا تبادل فيها للأسرى مع المحتجزين. ولكن هذا السيناريو يعيد المسألة إلى أصولها، فلم يسبق أن جرت التسوية السلمية إلا من خلال اقتراب مباشر من الأطراف المعنية؛ وكان ذلك ما فعلته مصر بزيارة الرئيس السادات للقدس، وما فعله الأردن بعد الاتصال المباشر من اتفاقية السلام في وادي عربة، وحتى الفلسطينيون الذين تقع لديهم عقدة «القضية» بين العرب والإسرائيليين فإن أقرب نقاط الاقتراب من الحل كانت مباشرة في «أوسلو»، حيث نجح الطرفان في التوصل إلى اتفاق سمي باسم المدينة التي جرى التفاوض فيها.
ما لا يقل أهمية هو أن الاقتراب الإقليمي يصل إلى مشروع للأمن والسلام والتنمية في منطقة أدارتها لفترة طويلة «الميليشيات» التي حلت محل الدول في اتخاذ قرارات الحرب والسلام، وهو ما كان ثمنه غالياً في الأرواح، وخسارة أجيال جديدة، وتدمير حضارات وبنية أساسية. لقد آن الأوان لكي تأخذ الدول الوطنية المبادرة في يدها.