بقلم - عبد المنعم سعيد
قد تبدو كلمتا «الثورة» و«الإصلاح» متناقضتين بحكم ما هو معروف عن الأولى من مترادفات «شعبية» و«راديكالية» و«جذرية»، وأحيانًا «عنيفة» تسيل فيها الدماء، وأحيانًا بغزارة؛ والثانية «نخبوية» و«تدريجية» لا تعترف بحرق المراحل، ولا بالسير فى قفزات كبيرة. ولكن التجربة التاريخية كثيرًا ما ترشد إلى أن العلاقة بين المفهومين قائمة فى أن كليهما معنى بالتغيير، ورفض الأمر الواقع القائم على الجمود أو الذى تعدته حكمة الزمن. التجربة الغربية فى نهاية القرن الثامن عشر تلقى لنا بكثير من الدروس التى تفيد فى القرن الواحد والعشرين. فى نهاية القرن الأول كانت الثورة الأمريكية قد نشبت وانتهت إلى الإطاحة بالمستعمر البريطانى بعد حرب دامية وقيام الولايات المتحدة الأمريكية؛ وكذلك نشبت الثورة الفرنسية، التى كانت أكثر راديكالية وأطاحت بالملكية وتلتها الحروب النابليونية، التى نشرت الثورة والحرب والعنف فى القارة الأوروبية.
وسواء كان الأمر واقعًا فى شمال أمريكا أم أوروبا، فإنه رغم الرغبة العارمة فى التغيير الكبير، فقد كان هناك قلق عميق من النتائج التى أدى إليها وما تركه من ارتجاج فى المجتمعات وضغوط على العلاقات السياسية بين الدول. فى الولايات المتحدة، ورغم المكانة التى شغلها «جون آدامز»- الرئيس الثانى للولايات المتحدة- وبعد أن فشل فى رفع «العبودية» من الدستور الأمريكى، فإنه لم يجد غضاضة فى إصدار قانون «الغربة والفتنة»، الذى يمنع الثوار الفرنسيين من دخول أمريكا، ويعتقل مَن والاهم بالفكر أو بالفعل.
وفى أوروبا، وبعد هزيمة «نابليون» فى ١٨١٥، اجتمعت أربع من القوى المحافظة فى أوروبا- بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا- وانضمت إليها فرنسا فيما بعد لكى تضع نظامًا أوروبيًّا- وعالميًّا فى الواقع- استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى..
.. (هنرى كيسنجر خلّد هذا التجمع فى كتاب شهير تحت عنوان «استرداد العالم أو A World Restored»). الفكرة الأساسية التى اتفقت عليها الأطراف الخمسة لم تكن فقط معادية ومعارضة للثورة، وإنما كانت فى جوهرها تقوم على حتمية الإصلاح.
كان الإصلاح حتميًّا وجذريًّا أيضًا لأنه لم يكن ممكنًا أن يبقى الحال على ما هو عليه ولا تقوم بسببه ثورات وحروب. ومع الاعتراف بأن المشابهات التاريخية قد تكون مُضلِّلة أحيانًا؛ فإنها تعطينا رؤى كثيرة تساعد على فهم ما يجرى فى الحاضر. لحظة الثورات فى المنطقة العربية جاءت مع ما سُمى «الربيع العربى»، الذى حقق الكثير من الفوران والفوضى وعددًا من الحروب الأهلية، وولّد دولة إرهابية للخلافة الإسلامية مع موجات دامية من الإرهاب والتعصب والتطرف. ودون الدخول فى كثير من التفاصيل، فإن عام ٢٠١٥ شهد الكثير من التطورات التاريخية فى المنطقة لا يزال بعضها عاكسًا لانهيارات ما بعد الثورات؛ ولكن بعضها الآخر ولّد موجات من الإصلاح القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين فى الحقوق، ومشروع وطنى غلاب للتنمية والتقدم الاقتصادى والاجتماعى. ورغم أن هذا الفكر شمل دولًا عربية عديدة، فإن ما يهمنا هنا فى هذا المقال التجربتان المصرية والسعودية لأن كلتيهما شرعت فى ذلك من خلال رؤية زمنية بين عامى ٢٠١٥ و٢٠٣٠، ولأن لكلتيهما ما ينفع من المساحة والكثافة السكانية، والإطلالة الكبيرة على الموقع المهم والتاريخ العميق. ومن المدهش أن كلتيهما أقامت الإصلاح والتحديث على عملية واسعة النطاق لاختراق إقليم الدولة، الذى يبلغ مليون كيلومتر مربع فى مصر، ومليونين فى السعودية. وفى مصر كان الاختراق من «النهر إلى البحر»، بحيث ربط المصريون ما بين النهر الخالد الذى عاشوا فيه لآلاف السنين، وبحار وخلجان الله الواسعة. فى السعودية فإن الربط جرى ما بين الخليج العربى شرقًا والبحر الأحمر غربًا، ومن الربع الخالى جنوبًا إلى حدود الشام شمالًا. وما لا يقل أهمية أن بلد الأزهر وبلد الحرمين الشريفين ركزا على ضرورة تجديد وإصلاح الفكر الدينى، الذى استحكم تطرفه خلال الثورات ومَن ورثوها من الإخوان المسلمين وأتباعهم من المتطرفين.
والحقيقة أنه قد يكون من غير الملائم الحديث عن الإصلاح وعملية التنمية، فى الوقت الذى تواجه فيه مصر صعوبات اقتصادية ضاغطة؛ أو تواجه فيه السعودية ضغوطًا من الدول الغربية لدفعها إلى المزيد من إنتاج النفط؛ ومع كلتيهما تتعرض القاهرة والرياض، (وفى الواقع الآن أبوظبى والدوحة أيضًا)، للكثير من الضغوط الغربية تحت شعارات شتى ليس مكان الحديث عنها هذا المقام. ولكن الواقع هو أن عملية الإصلاح الجارية وتنفيذ المشروع الوطنى متعدد الأبعاد لم يتسبب فى النكوص به أى من الضغوط المشار إليها. ومَن ينظر فى بر مصر سوف يجد «ورشة» عمل لم تتوقف للحظة، ولم ينقطع امتداد طريق، أو إنشاء مدينة، أو إقامة مصنع، أو اكتمال جامعة أو متحف. ولكن أكثر ما يلفت النظر أن مشروع «حياة كريمة»، المؤثر فى تقدم ٥٨ مليون نسمة فى ريف مصر، بقى على قوة اندفاعه.
رؤية السعودية ٢٠٣٠ كان فيها الكثير من الجرأة والشجاعة، خاصة أنها واجهت بلدًا مغرقًا فى المحافظة والظلام الاجتماعى، ورغم الثروة الكبيرة، فإن الدولة لم ترْقَ أبدًا إلى ما يليق بإمكانياتها الطائلة. وبدون الدخول فى كثير من التفاصيل، فإن الإصلاح السعودى لم تقف أمامه أثقال تاريخية ذات أبعاد توزيعية على المواطنين، وإنما سعى إلى تعظيم أثر القدرات الشبابية فى ديمغرافيا الدولة. والأكثر أهمية، فإنه رغم اتساع المساحة، فإن مركزية الدولة نجحت فى الاستفادة من تجارب جنوب شرق آسيا فى التحول إلى اقتصاد السوق والاستفادة من كل جوانب الثروة السعودية أيًّا كان مصدرها، وأين يوجد مكانها. تحرير شركة أرامكو الكبرى، وطرحها فى أسواق البورصة، و«خصخصة» ملكية المطارات، ومن بعدها المرافق، ووضعها فى إطار شركات قابضة جاهزة للطرح العام، يضع الإصلاح فى أعلى درجاته «الثورية»، التى تشارك الشعب فى الملكية، وتستخلص أكثر ما فيه من إبداع. مؤخرًا، وصلت المملكة إلى استغلال ثروات النخيل والتمر، ومؤخرًا لم تُترك القهوة العربية و«الشوكولاتة» دون مهرجان كبير للترويج والتسويق العالمى؛ وكل ذلك مع كل عمليات البناء والتعمير والصناعة والزراعة والخدمات وبناء المدن العملاقة التى تضيف إلى العمارة العالمية. لم تُغْرِ السعودية كثيرًا الطفرة فى مواردها المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، وإنما بات عليها- مع الاحتفاظ بالاحتياطيات اللازمة- أن تتبنى وتقيم الكثير من الأصول النافعة لأجيال قادمة. وفى بلد كانت فيه القوة الناعمة واقعة فقط فيما باركه الله فى مكة والمدينة؛ فإن المملكة شرعت فى عمليات تحديث واسعة تقوم على مواسم ثقافية وترفيهية إقليمية وعالمية.
التفاصيل عن الإصلاح فى مصر والسعودية كثيرة، ولكن آخر إرهاصاتها هو ما جرى فى مدينة شرم الشيخ ومع انعقاد «cop27»، فقد كان الإعلان المصرى السعودى عن السعى نحو إنشاء «الشرق الأوسط الأخضر» سيرًا فى اتجاه إصلاح إقليم طال زمن انتظار إصلاحه.