بقلم - عبد المنعم سعيد
قد يبدو موضوع المقال مخالفا لمقتضى الحال الذى هو مفعم بالقتال والحرب واحتمالات التحول من حرب غزة الخامسة إلى حرب إقليمية شاملة، وعدد من المُبالغين يصلون بها إلى الحرب العالمية الثالثة. ولكن العالمين بالحرب فإنها من القسوة بحيث تبدأ جهود البحث عن السلام ليس فقط بوقف القتال، أو العودة إلى حيث بدأ، وإنما أكثر من ذلك؛ البحث فى كيف يمكن منع الحرب من الحدوث مرة أخرى؛ وللحالمين السعى نحو عالم أفضل. جرى ذلك أثناء الحربين العالميتين، كما حدث فى أثناء الحروب الأخرى فى آسيا فى فيتنام ولاوس وكمبوديا، وفى صدامات الباكستان والصين مع الهند، وبالتأكيد فى جميع المراحل التى دارت فيها الحروب العربية الإسرائيلية. وفى الحرب الراهنة لا يوجد استثناء؛ وحتى فى داخل المفاوضات المأسوف عليها لوقف إطلاق النار فى غزة فإن تطبيقها حتى النهاية يصل إلى ليس فقط وقف القتال وإنما البحث عن سلام دائم. من هذا ما نشر عن اقتراح معلن من قبل إيهود أولمرت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق؛ وناصر القدوة وزير الخارجية الفلسطينى السابق، والممثل الفلسطينى فى الأمم المتحدة لفترة طويلة، وهو أحد المرشحين الدائمين لخلافة الرئيس محمود عباس. الاقتراح المطروح يقوم على أساس الحدود القائمة فى عام ١٩٦٧، أى قبل الحرب العربية الإسرائيلية والتى قامت فيها إسرائيل بضم الضفة الغربية وقطاع غزة؛ مع تبادل للأراضى بمقدار ٤.٤٪ من مساحة الضفة الغربية تنضم إلى إسرائيل محتوية على عدد من المستوطنات الكبرى، مقابل أرض مماثلة من إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية شاملة «كوريدور» أو ممرا يربط ما بين الضفة والقطاع. هذا المقترح فيما يبدو يستند إلى المفاوضات السابقة التى جرت بين أولمرت والرئيس الفلسطينى محمود عباس ولكنها لم تكتمل ولم تصل إلى مرحلة التطبيق.
من الناحية العملية فإن المسافة ما بين المقترح والواقع الراهن المشبع بالقتل والدخان والنار كبيرة وواسعة، ولا تزال هناك نقاط وقضايا رهن البحث والتطبيق، منها كيف ننتهى من الحرب الحالية أولا قبل أن نصل إلى مرحلة السلام ثانيا. عالم العلاقات الدولية الشهير فى جامعة هارفارد «جراهام أليسون» و«آموس بالدين» اللواء السابق فى القوات الجوية الإسرائيلية ورئيس مخابرات الدفاع (٢٠٠٦- ٢٠١٠) ومؤسس ورئيس مؤسسة MIND أى العقل الاستشارية نشرا مقالا هاما فى دورية «الشؤون الخارجية» الأمريكية فى ٣٠ أغسطس المنصرم بعنوان «صفقة وقف إطلاق النار نصر لإسرائيل»، وتكملة العنوان فإنه ومن ثم فإن إسرائيل تستطيع أن تدخل فى صفقة سلام كبرى مع الفلسطينيين والدول العربية وهى متأكدة أن حادث ٧ أكتوبر لن يحدث مرة أخرى. وحسب المقال فإن إسرائيل حصلت فى عهد نتنياهو على انتصار تاريخى واستراتيجى لم يكن يحلم بالحصول عليه ١٣ رئيس وزراء سابقون.
حجة أصحاب المقال هى أولا شهادة المفاوضين الإسرائيليين أنفسهم والذين يمثلون «الموساد» و«الشين بيت» ووزير الدفاع «يوآف جالانت»، فرغم طول فترة الحملة العسكرية الإسرائيلية فوق ما هو متوقع فإن إسرائيل هزمت حماس حيث فقدت معظم قياداتها العسكرية مع نصف قواتها ولا تستطع أن تقوم بهجمة ٧ أكتوبر مرة أخرى. وحدث ذلك، ثانيا، بتأييد كامل من الولايات المتحدة لم يحدث منذ عام ١٩٧٣ فى الحرب العربية الإسرائيلية؛ وجرى ذلك بينما تواجه تحديات فى أوروبا وآسيا، وكل ذلك له تكلفة لا تستطيع أمريكا استمرارها إلى الأبد. وثالثا، ورغم ما فقدته إسرائيل من ضحايا وتكلفته من خسائر فإن تحولا حدث فى الدول العربية بحيث تمكن التنسيق الأمريكى فى ١٣ إبريل من مواجهة ٣٠٠ سلاح إيرانى (صواريخ ومسيرات) مضافا لها ١٥٠ من حلفائها (حزب الله والحوثيين والحشد الشعبى)، ولم يصل أى منها إلى أهدافه. وعلى العكس فإن الرد الإسرائيلى فى ١٩ إبريل دمر منظمة الدفاع الجوى الإيرانية، وهدد مؤسسة نووية، وأظهر انكماشا إيرانيا ملحوظا. ورابعا، فإن الردع الإسرائيلى الذى انهار فى ٧ أكتوبر جرى استعادته مع اغتيال قيادات هامة مثل محمد الضيف وفؤاد شكر وإسماعيل هنية.
كل ذلك يخلق نافذة فرصة بعدما يقرب من عام حرب، تعطى إسرائيل فرصة للتفاوض من موقع القوة لوضع نهاية للحرب، مع التوافق مع الولايات المتحدة ودفع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطانى حسب قرار مجلس الأمن ١٧٠١، وإنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق مع السعودية بعد الانتخابات الأمريكية الجارية. هنا يتساءل المؤلفان: إذا لم يكن هذا وقت السلام فمتى؟، فإذا لم تستغل نافذة الفرصة هذه فإن إسرائيل سوف تقف فى مواجهة حرب إقليمية إذا كان يريدها نتنياهو للبقاء فى الحكم فإنها حلم السنوار لذات الهدف. إسرائيل فيها ما يكفى من انشقاقات مع اليهود الأرثوذكس ورفضهم للخدمة العسكرية، والانقسامات الإسرائيلية الأخرى، وفى كل الأحوال فإن إسرائيل سوف يظل عليها دائمة مواجهة سبعة ملايين فلسطينى لا بد من التعامل معهم.
المقال كما هو واضح يريد إقناع نتنياهو بأنه حصل على النصر الذى يريده بينما هناك فرص إقليمية تدعو إلى السلام، ولكن ذلك ليس هو كل حديث السلام فى زمن الحرب. فالحقيقة هى أنه بقدر ما جرى الاهتمام بالصراع، ثم بالبحث عن السلام، فإن مجلدات من البحث والدراسة جرت فى الاتجاهات التى كتب فيها عالم العلاقات الدولية «كينيث والتز» كأسباب للحرب ممثلة فى النظام الدولى، والنظام الداخلى للدولة المتصارعة بما فيه من هوية وميراث تاريخى، والإنسان الذى يمثل القيادة التى تصدر قرار الحرب والسلام وما لها من طموحات ومحافظة. الصراع العربى الإسرائيلى- والفلسطينى الإسرائيلى- فى قلبه تمكن من الصمود طوال فترات الاستعمار، والتحرر الوطنى، والحرب الباردة، وما بعد انتهاء الحرب الباردة وبزوغ العولمة، وها هو مستمر فى وقت أخذت فيه العولمة فى التراجع؛ والهويات العربية والإسرائيلية تتعرض لالتواءات حادة يختلط فيها التاريخ بكراهية مستمرة ومدمرة، والمواجهة ما بين نتنياهو والسنوار فيها قرار الاستغناء عن السلام والتضحية بالشعوب لقاء جهل بتوازنات القوى. ثلاثية «والتز» ينقصها بُعد هام وضرورى، وهو الإقليمى الذى يظهر بوضوح فى الحرب الجارية كما حدث من قبل، حيث تعدى بكثير التغير فى شكل الصراع من عربى إسرائيلى إلى فلسطينى إسرائيلى لكى يشمل بعد ذلك جميع الدول التى فقدت صفاتها القومية وباتت «الميليشيات» هى التى تقوم بالحرب مزودة بالصواريخ والمسيرات بينما الجيش الوطنى يقوم بتنظيم المرور. قرارات الحرب والسلام، وهى قرارات مصيرية فى حياة الدول، لا يتم اتخاذها فى القيادات السياسية ومجالس الأمن الوطنى، وإنما يتم فى أمانات أحزاب سياسية، وأحيانا كثيرة كما هو الحال فى الحرب الحالية يجرى فى عواصم خارجية، كما هو الحال مع إيران الآن. تناول موضوع السلام واحتياجاته لصيق بمسألة الحرب وتبعاتها، والعلاقة بينهما تحتاج إلى استقصاءات عديدة للعقبات التى تمنع السلام بقدر معرفة الأسباب التى تؤدى إلى الحرب.