بقلم - عبد المنعم سعيد
في مقالات سابقة تتعلق بقضايا المنطقة العربية رفعت شعار «ليس لنا إلا أنفسنا»، ومعناها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وربما غيرها من القضايا السورية واللبنانية والسودانية واليمنية والليبية، وجميعها تتعلق بفشل القوى السياسية المحلية في التوصل إلى كلمة سواء تحمي الدولة من الانقسام والحرب الأهلية. في مثل هذه الأحوال فإن التدخل الخارجي في العادة يزيد الأمور سوءاً، ويبلغ بها مراحل من القسوة التي تقض المضاجع، وتجعل من الأحوال كوابيس من الصعب الاستيقاظ منها. نقطة البداية في القضية «المركزية» هي أن مفاوضات وقف إطلاق النار قد وصلت إلى طريق مسدود، ورغم الجهود المضنية التي بذلتها الولايات المتحدة ومصر وقطر في التفاوض والتنقل من عاصمة إلى أخرى، فإن الواضح من الأمور أن كلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويحيى السنوار قائد «حماس»، قد اختلفا على كل شيء يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنهما اتفقا على أمر واحد، وهو عرقلة الجهود القائمة من أجل مسيرة سلام لن يمكن الوصول لها دون وقف إطلاق النار في غزة. لن يفيد كثيراً التوغل في تفاصيل الخلاف في المفاوضات، وبالطبع توجيه الأحكام عن المخطئ والمصيب، ومن معه القانون الدولي ومن ليس في صفه، فهذه أمور إن تبدُ للمستمع والقارئ تسئ إليه عندما يجد أن حرمة الحياة الإنسانية منتهكة، وسلامة وحرمة الحضارة مسلوبة. ما يهم أن الحرب مستمرة، وأنه لم يعد هناك في الجعبة الدبلوماسية ما يؤدي إلى إيقافها. تاريخياً فإن كل قصص النجاح في الصراع العربي - الفلسطيني الإسرائيلي حدثت من خلال إرادة إقليمية والتعامل المباشر والعلني ما بين الطرف العربي والطرف الإسرائيلي.
الثابت هو أن تجارب السلام المستقرة السابقة قد جرت أولاً من دول وطنية ملتفة حول قيادتها دون انقسام أو تشتت؛ هي دول وطنية وضعت مشروعاً وطنياً ليس فقط للاستقلال والتحرر، وإنما أيضاً للتنمية المستدامة والمشاركة في الحضارة المعاصرة. وثانياً أنها جرت مباشرة ووجهاً لوجه؛ وبين قيادات عربية وأخرى إسرائيلية، بحيث بات السلام تعبيراً عن مصلحة وطنية مباشرة، وقومية بالغة الأهمية. الدروس التي قدمها الرئيس السادات، والملك حسين، والرئيس عرفات، على سبيل المثال، وقادة الإمارات العربية والبحرين والمغرب والسودان، كان لديهم جميعاً مصالح استراتيجية كبرى، منها استخلاص أرض محتلة، ومنها اتقاء شر أعداء آخرين، أو الحصول على منافع استراتيجية، مثلما كان حل قضية الصحراء في المغرب، وخلاص السودان من القائمة الإرهابية. في كل الأحوال كان هناك مشروع وطني يتطلب الاستقرار والبناء وليس الحرب والصراع وإيقاع الإيذاء بالطرف الآخر. هذه الدروس كان فيها ما يكفي من المصالح لكي تتراجع إسرائيل في أرض محتلة وتعطي موطئ قدم للفلسطينيين. وثالثاً أن الولايات المتحدة، وإن أيدت جهود السلام من قبل طرفيها، فإنها لم يكن لها دور جوهري إلا كمسهل ومحلل لإسرائيل، وفي كل الأحوال كانت المصالح القومية للدول هي الحاكمة ولا يمكن الحصول عليها إلا بعد أن يأتي السلام ويستتب.
معنى فشل المفاوضات الجارية، وهي كما هو معلوم، كان نجاحها هو أولى الخطوات نحو حل الدولتين، وهي خطوة باتت مقبولة من الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبينما يكثر الحديث عن الدولة الفلسطينية وحقها في الاستقلال، فإنه من الناحية الأخرى فإذا كانت إسرائيل هي الدولة الأخرى، فإنه لا بد من تحديد موقعها في المنطقة واندماجها فيها. من الطبيعي أن يثار عن حق الحالة الجارية في إسرائيل من أول عصبة التعصب - نتنياهو وغفير وسموتريتش - وحتى بقية اليمين الإسرائيلي والشعب الإسرائيلي بتياراته المختلفة. الاقتراح المحدد هنا له وجهان: أولهما أن الدول العربية التي وقعت معاهدات سلام وطبعت مع إسرائيل عليها أن تجتمع على رسالة واحدة موجهة مباشرة للشعب الإسرائيلي قوامها الاختيار ما بين الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية، أو الاندماج بالسلام مع دول المحيط العربي. وثانيها رسالة موجهة إلى الشعب الفلسطيني أن يعود إلى أصوله السياسية الأولى، والمعترف بها دولياً، وهي منظمة التحرير الفلسطينية؛ يكون لديها الاحتكار الشرعي للسياسة والسلاح. دول السلام هذه يوجد في اتفاقياتها ما نص على أشكال مختلفة من التعاون، وفي منتدى غاز البحر المتوسط يوجد شكل من أشكال التكامل الاقتصادي، ومثله يمكن أن ينطبق على شمال البحر الأحمر؛ وحتى وبدون معاهدة سلام، فإن إسرائيل ولبنان اتفقا على الاستغلال المشترك لحقل الغاز الواقع بينهما. هذا المدخل الإقليمي يخلق مسارات أخرى للتسوية والسلام. مثل ذلك ليس سهلاً، لكنه البديل المتاح لحل القضية.