بقلم - عبد المنعم سعيد
قبل أسبوع أو أكثر قليلا شهد قطاع غزة أمرا غريبا وسط كل الأحوال الدامية التي يخوضها القطاع من قصف جوى إسرائيلى إلى الأجواء «المنذرة» بالاستعدادات الإسرائيلية لاقتحام رفح، بما فيها أنه قد تم تحديد موعد الغزوة البرية الإضافية إلى عمليات الحصار وانتشار المجاعة والمرض، إلى آخر ما هو معروف ومشاهد. وفجأة أعلن مصدر إعلامى في حماس عن القبض على عشرة من ممثلى السلطة الوطنية الفلسطينية التي يفترض فيها أنها الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى والذين حضروا إلى غزة للإشراف على توزيع المعونات التي جمعتها السلطة في الضفة الغربية على المواطنين في غزة.
وكانت التهمة هي أن العشرة يتعاونون مع إسرائيل، وجاءت مصحوبة بالكثير من اللعنات على العملاء والخونة. وبينما تحاول مصر مع قطر، وبتأييد من الدول العربية، العمل على وقف إطلاق النار، يبدو أن بارقة أمل في التوصل إلى هدنة ظهرت، وأعلن مراسل شبكة «سكاى نيوز عربية» التليفزيونية أن «مصادر مصرية» تحدثت عن تقدم جارٍ في المفاوضات المعقدة، فإن متحدثا باسم حركة حماس أعلن فورا أنه لم يحدث أي تقدم بسبب التعنت الإسرائيلى وعدم تحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطينى. في الوقت نفسه أعلنت مصادر عن الجيش الوطنى السودانى أنه بصدد شن حملة عسكرية على منطقة «الجزيرة» السودانية لتحريرها من المتمردين من قوات الدعم السريع.
.. وفى نفس الوقت تقريبًا كانت إسرائيل قد قامت بشن غارة جوية على القنصلية الإيرانية بالقرب من مطار دمشق لكى تقتل سبعًا من ضباط الحرس الثورى الإيرانى، من بينهم اثنان من اللواءات المشهود لهم بالمكانة والقدرة على قيادة عمليات إيران في منطقة المشرق العربى. ومن وقتها لم تترك مطبوعة عالمية الأمر دون وضع الأيدى على القلوب حتى قامت إيران بالانتقام الذي يحفظ ماء الوجه بنحو 300 صاروخ وطائرة مسيرة، وما حدث بالفعل أنه كان «بروفة» مرعبة حشدت فيها إيران المُسيرات والصواريخ من كل نوع، وواجهتها أسلحة مضادة من البر والبحر، ومشاركة أمريكية وبريطانية وفرنسية وأردنية، ودخل العالم في مرحلة انتظار أخرى لكيف سيكون رد الفعل الإسرائيلى.
فيما كان الموقف في البحر الأحمر ليس أسعد حالًا، فقد استمرت الاشتباكات الصاروخية بين قوات الحوثى والأساطيل الغربية التي قادتها الولايات المتحدة وبريطانيا، وانضم إليها مؤخرًا أسطول أوروبى.
القصص في منطقتنا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، فمنطقتنا مشتعلة بالأزمات والحروب التي لم يشفع لها شهر رمضان المعظم ولا عيد الفطر المبارك في هدنة أو قبول مراجعة المواقف والأحداث. والحالة هكذا دفعت الرئيس عبدالفتاح السيسى لكى يخرج على النص المكتوب في خطابه أمام «إفطار الأسرة المصرية» داعيا إلى الحديث والحوار وشحذ الفكر حول أوضاع الإقليم المرتبطة بحرب غزة الخامسة وتأثيرها على مصر، خاصة أن هناك تغييرات كبيرة يشهدها الإقليم والعالم. جرت هذه الدعوة في إطار من الإشادة بعملية الحوار الوطنى التي جرت خلال العامين الماضيين والتى ركزت على الأوضاع السياسية والاقتصادية الاجتماعية الداخلية المصرية ولعله آن الأوان لكى يكون هناك حوار على الأوضاع الخارجية أيضا. فلا أحد يمكنه أن يغفل عن الأثمان الفادحة التي دفعتها مصر خلال الأعوام الأخيرة نتيجة العمليات الإرهابية التي أتت من مصادر عدة، كان من بينها أنفاق غزة والتسلل من الحدود الليبية والسودانية إلى مصر، ونتيجة جائحة الكورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وحروب غزة التي نعيش فصلها الخامس حاليا. مصر بموقعها الجغرافى ومسيرتها التاريخية تتأثر بسرعة كبيرة في محيطها المباشر وبيئتها الإقليمية، وعلى ذلك سوف يكون الحوار بهدف حماية المشروع الوطنى المصرى خلال المرحلة المقبلة.
النقطة الأولى في الحوار هي تحديد المصالح القومية العليا التي من خلالها ننظر إلى خارج مصر، سواء تجاه ما يجرى في العالم الذي يتعرض لارتجاجات مخيفة أو في الإقليم الذي يعيش جريان الدماء في جميع الاتجاهات المحيطة بالمحروسة. وأولى المصالح هي استمرار المشروع الوطنى المصرى والذى جرت عملية البناء فيه رغم كل الأزمات والتحديات المشار إليها التي رغم ضغوطها الكثيرة فإن ذلك لم يقف في طريق عمليات البناء الجارية. ورغم الأزمة الاقتصادية التي مرت بها مصر فإن مشروعا واحدا من مشاريعها لم يتوقف. ما جرى ذكره سابقا في هذا المقام ومقامات أخرى أن مصر تحتاج «تشغيل التغيير» الذي حدث بالفعل، ولعلها أيضا تحتاج تغيير «النخبة الاستراتيجية» للقرار لكى تتناسب مع طبيعة المهمة الجديدة. وثانية المصالح المهمة هي أن مصر تحتاج استقرارا إقليميا يوفر ظروفا ملائمة للتنمية والنمو المستدام. تحقيق ذلك لن يتسير ما لم يجر التعريف الدقيق للواقع الإقليمى والذى يشهد بالانقسام بين ثلاث مجموعات من الدول: أولاها مجموعة الدول العربية الساعية أيضا إلى الاستقرار لأن لديها مشروعا وطنيا للبناء والتعمير والتحديث تريد المحافظة عليه ورعايته. وثانيتها مجموعة الدول العربية التي توقفت فيها الدولة عن الاحتكار المشروع للسلاح، ومن ثم باتت الدولة طرفا من أطراف ميليشيات عسكرية وسياسية، وهذه جعلت لنفسها عنوان «المقاومة والممانعة» الذي يعنى وضع عمليات البناء والتعمير والتنمية جانبا والدخول في صراعات مسلحة لتحرير الوطن والإقليم والعالم للتحرير من أشكال استعمارية مختلفة، وأحيانا إقامة «الخلافة الإسلامية». وثالثتها الدول الإقليمية غير العربية- إيران وتركيا وإسرائيل- وهذه كان لها مشروعها الخاص في إطارها الإقليمى، وحصلت هذه المشروعات على دفعة إضافية مع الخلل الإقليمى في توازنات القوى الذي جاء نتيجة ما سمى «الربيع العربى».
استمرار البناء وتحقيق الاستقرار الإقليمى يفرض السعى إلى تصحيح الاختلال الجارى بين القوى الإقليمية غير العربية في ناحية والدول العربية في ناحية أخرى. هذا التصحيح يبدأ أولا بتكوين رابطة من الدول التي تقوم حاليا بعمليات إصلاحية كبرى بتعزيز الهوية الوطنية، واختراق إقليم الدولة بالمشروعات القومية العملاقة، واستيعاب المواطنين داخل مشروع وطنى تكون فيه لجميع المواطنين، خاصة الشباب، أدوار محورية في العمل والإبداع والابتكار، وتجديد الفكر الدينى والاحتفاء بالأفكار الإصلاحية. وثانيا النظر الدقيق والبحث العميق في مشروعات الدول الإقليمية غير العربية وكيفية التعامل معها بهدف إقامة الجسور والعلاقات القائمة على المنافع المتبادلة، والردع كلما كان ذلك ضروريا. الحوار الوطنى في هذه الحالة عليه أن يبحث في إجابات عن الأسئلة الخاصة بكل من الدول الإقليمية الثلاث، وكيفية التعامل مع إيران التي اختارت بناء دفاع متقدم يقوم على الميليشيات العسكرية في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. القضية الفلسطينية المحورية دائما بات هناك توافق عالمى على حلها من خلال حل الدولتين، هنا فإن البحث يكون عن إجابة عن السؤال بالنسبة للدولة الفلسطينية عما إذا كانت ستكون «دولة فلسطين» أم «دولة حماس». الدولة الإسرائيلية على الجانب الآخر يكون من خلال طرح السؤال مباشرة على الإسرائيليين عما إذا كانت إسرائيل أن تختار ما بين أن تكون جزءا من الإقليم وأحلامه في التنمية والازدهار، أو أن تستمر في حالة دائمة من العداء والصدام مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين في المنطقة وفى العالم. كيف نفعل ذلك؟ تلك هي المسألة التي تشغل الحوار