بقلم - عبد المنعم سعيد
أكتب هذا المقال بعد أن انتهت الانتخابات التمهيدية الحزبية، التى تقرر مرشحى الحزبين الديمقراطى والجمهورى فى الولايات المتحدة فى يوم الثلاثاء المعظم أو Super Tuesday، حيث أدلت ١٤ ولاية بدلوها فى الأمر، حتى ولو لم تقرر وحدها نهاية المنافسة، التى سوف تستمر حتى تقرر المؤتمرات الحزبية الأمر. كان واضحًا من النتائج أن الرئيس الديمقراطى جوزيف بايدن لم يلق منافسة حقيقية فى أن يكتسح عمليًّا نتيجة الانتخابات الديمقراطية. على الجانب الآخر فى الحزب الجمهورى لم تكن النتيجة مختلفة، ورغم أن الرئيس السابق دونالد ترامب ظل متفوقًا فى السباق مع سبعة من المرشحين الجمهوريين، ولكنهم تساقطوا الواحد بعد الآخر، ولم يبق منهم إلا «نيكى هيلى»، ممثلة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة خلال إدارة ترامب (٢٠١٦-٢٠٢٠) السابقة. كان واضحًا أن ترامب، ولو أنه خسر الانتخابات السابقة فى صناديق الانتخابات، وخسر كذلك ادعاءه وجود تزوير فى هذه الانتخابات فى ساحة القضاء، كما خسر معركة التصديق على نتائج الانتخابات فى الكونجرس، فإنه عمليًّا استولى على الحزب الجمهورى فكريًّا وعمليًّا وانتخابيًّا.
فكريًّا، أخذ ترامب الحزب بعيدًا عن الوسط الأمريكى وتقاليده التى أرساها إيزنهاور ونيكسون وفورد ورونالد ريجان وجورج بوش الأب ذات الطبيعة البراجماتية محليا والعولمياتية خارجيا التى تتقاسم مساحات سياسية مشتركة فى الوسط السياسى. عاد ترامب بالحزب إلى أشكال من اليمين ساد الظن أنها انتهت منذ الحرب العالمية الثانية مرسية قاعدة قيادة الولايات المتحدة للعالم بأيديولوجية ليبرالية ديمقراطية ساد ظن بعد انتهاء الحرب الباردة أنها «نهاية التاريخ». أعاد ترامب الولايات المتحدة إلى نظرة انعزالية عن العالم مغلفة بكثير من الإشارات التى سادت فى الجنوب الأمريكى إبان الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦٠-١٨٦٥) ذات الطبيعة العنصرية المتشككة فى فاعلية الليبرالية الأمريكية فى تعزيز مكانتها فى العالم. صورتها فى العصر الحديث تأخذ شكل التشرنق داخل الولايات المتحدة، والنظر المتشكك فى تحالفاتها الخارجية بما فيها حلف الأطلنطى والعلاقات الخاصة مع دول بعيدة مثل كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا. فى القاموس الترامبى فإن العلاقة مع هذه الدول كلفت الولايات المتحدة غالبا وتحتاج العلاقات معها إلى إعادة نظر تقوم على أسس نفعية أكثر منها مبدئيا. الأمر لا يخل من نظرة عنصرية تقدر العداء لليهود والمسلمين والسود وأبناء جنوب العالم فى عمومهم؛ ومحتوى ديكتاتورى يقدس «الرجال الأقوياء» الذين يحكمون فى روسيا وكوريا الشمالية.
عمليا فإن ترامب اتبع استراتيجية هجومية منذ خسر الانتخابات الماضية قامت على الاستيلاء الكامل على الحزب الجمهورى بحيث بات له اليد الطولى فى تقرير مرشحى الحزب فى الانتخابات سواء كانت للكونجرس أو للولايات المختلفة. وكما توجد علامة تجارية لترامب فى مجال الأعمال فإنه بات لديه علامته الخاصة فى السياسة أيضا تكافؤ وتعاقب. ورغم النكسة النسبية التى تعرض لها الحزب خلال انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فإن مجموعة ترامب أكدت وجودها فإن ذلك لم يؤثر فى مرحلة الإعداد للانتخابات الرئاسية؛ وإذا كان ترامب قد أطاح بما قدره ١٧ مرشحا فى انتخاباته الأولى التى نجح فيها ووصل إلى البيت الأبيض؛ فإنه هذه المرة أطاح بسبعة فقط لم يعطهم فرصة للمناظرة معه، وحدث ذلك رغم وجود أربع قضايا كبرى أمام المحاكم الأمريكية تشمل ٩١ اتهاما منظورا. وحدها «نيكى هيلى» هى التى صمدت والمرجح أنه رغم هزيمتها الساحقة فإن تأثيرها فى الانتخابات الرئاسية لابد - كما سوف نرى- من أخذه فى الاعتبار.
انتخابيا بات من المؤكد أن المواجهة فى الانتخابات الرئاسية المقبلة فى نوفمبر القادم سوف تكون بين جوزيف بايدن الديمقراطى ودونالد ترامب الجمهورى. المنافسة بينهما بدأت خلال فترة الانتخابات التمهيدية، فقد كان الأمر صافيا لبايدن لأنه رئيس الدولة، ورغم التخوف من كبر سنه وآثاره العمرية صحيا فإن الرجل لم يلق تحديا يذكر داخل حزبه. على الجانب الآخر فإن ترامب لم يلق معارضة حقيقية داخل حزبه وعمليا فإنه لم يغب عن ذهنه ولو للحظة واحدة أن خصمه فى الانتخابات الرئاسية هو المرشح الديمقراطى. تاريخيا فإنه لا توجد إلا سابقة واحدة للرئيس جروفر كليفلاند الذى فاز بدورة رئاسية ١٨٨٤- ١٨٨٩ وكان الرئيس ٢٢ بالولايات المتحدة وبعد خسارته فى نهاية ١٨٨٨ عاد مرة أخرى فى ١٨٩٢ إلى منصب الرئيس ٢٤ للولايات المتحدة. الحالة فريدة كما نرى، وموازينها أكثر تعقيدا؛ وإذا كان الميزان الاقتصادى عادة ما كان العنصر الحاسم فى حسم نتيجة الانتخابات فإن حالة الميزان ملتبسة حتى الآن فى تقرير النتيجة المتوقعة. فرغم أن بايدن نجح فى مواجهة الكورونا وإعادة بناء البنية الأساسية الأمريكية وتحقيق معدلات ملحوظة من النمو الاقتصادي؛ فإن الثابت أيضا أن ذلك لم يصل إلى رأى المواطن الأمريكى الذى يغلب عليه الشعور أن حالته الاقتصادية ليست على ما يرام. انعكس ذلك على استطلاعات الرأى العام فبات النصر محسوما لصالح ترامب ٤٨٪ مقابل ٤٣٪ لبايدن.
ومع ذلك فإن الزمن لا يزال مبكرا ما بين الآن وموعد الانتخابات فى نوفمبر القادم، وهى فترة يمكن فيها أن يتزايد الإحساس بالتحسن فى الحالة الاقتصادية بين الشعب الأمريكى. يضاف إلى ذلك أن الديمقراطيين سوف يكون لديهم وقت أكبر للتكتل وراء الرئيس الديمقراطى، مساندا من قبل المرأة والأقليات اللاتينية والسوداء للفوز بالانتخابات كما حدث فى الانتخابات السابقة. الاتهامات والقضايا القانونية الموجهة للرئيس السابق ترامب يمكنها مع تواترها أن تعزز من الشكوك الواقعة داخل الحزب الجمهورى والتى ترى أن ترامب ليس مؤهلا للرئاسة أخلاقيا وسلوكيا؛ وهذه حاولت الالتفاف حول «نيكى هيلى»، لكى تعيد الحزب إلى تقاليده العريقة السابقة. مثل ذلك سوف يعطى اختيارا انعزاليا تجاه الحزب تذهب أقلية صغيرة منه إلى المرشح الديمقراطى، أما أغلبية هذه الشريحة فإنها لا تصوت على الإطلاق. غالبية الجمهوريين سوف تكون أشد التزاما بالذهاب إلى صناديق الانتخابات مما كانت عليه فى انتخابات سابقة، وتكون مندفعة فى الولايات «الحمراء» بشكوكها العميقة فى الحزب الديمقراطى وسياسته اللينة تجاه الهجرة، والأكثر ليونة تجاه المثليين المخالفة لتقاليد دينية عميقة فى ولايات الجنوب. الولايات المتأرجة كما كانت فى الانتخابات القريبة الماضية سوف تكون حاسمة فى اعتدال الموازين أو انقلابها.
مَنْ مِنَ المرشحين أقرب للمصالح العربية سؤال يطرح فى كل الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ وهو سؤال مشروع بحكم الأهمية المركزية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط خاصة على ضوء الصراع الحالى فى حرب غزة الخامسة وتوابعها على الحدود الإسرائيلية مع الضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق ومؤخرا فى البحر الأحمر؟ حتى وقت الكتابة فإن العداء العربى فى المنطقة وفى الولايات المتحدة استقر على إدانة بايدن ومواقفه الموالية لإسرائيل خاصة فيما يتعلق بالوقف الفورى لإطلاق النار فى غزة؛ ولكن تصريحات ترامب تجاه الحرب أكثر سوءا بكثير. تفاصيل ذلك تتطلب مقالا آخر