بقلم - عبد المنعم سعيد
الملف الشامل يدور حول العلاقات العربية الأمريكية، ورغم تشعبه وتعدد أبعاده وزواياه، فإنه بدا مكثفًا حول أحداث أربع وعشرين ساعة دارت منذ هبوط الرئيس الأمريكى جوزيف بايدن إلى مطار جدة بعد ظهر الجمعة ١٥ يوليو، وحتى مغادرته مرة أخرى إلى واشنطن بعد ظهر السبت ١٦ يوليو. الرحلة بدأت فى الحقيقة قبل شهور عندما نشبت الحرب الأوكرانية ورد فعلها فى فرض العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو، والتى سرعان ما باتت حربًا اقتصادية بدأت فى اتجاه واحد من واشنطن إلى موسكو، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت من موسكو إلى واشنطن عابرة بأوروبا ودول حلف الأطلنطى. البترول والطاقة كانا عصب الحرب الواقعة خارج الحدود الأوكرانية حيث الحرب الضروس تتبدّى للعالم فى شكل جولات قيل فيها إن روسيا سوف تحسم الحرب فى أيام، وبعدها جرى التأكيد أن إنقاذ «كييف» ربما يعنى هزيمة روسية. ولكن لعبة الحرب لم تكن بالسهولة التى يُبديها طرف أو آخر، ولا العقوبات أيضًا، وكلاهما انفجر فى وجه الجميع، وفى واشنطن بان عصب المسألة كلها وكأنه يدور حول الشرق الأوسط، أو بحالة أدق حول الدول العربية المنتجة للنفط، وبدقة أكبر حول المملكة العربية السعودية. الوشوشات والهمسات والصيحات ارتفعت دقاتها مع العمليات الجارية فى جبهة القتال، ومن بعدها عندما جاء التضخم وارتفعت الأسعار، وأصبح مواطنون فى أوروبا وأمريكا يتحدثون عن التصويت القادم، الذى يزيح قادة وزعماء فشلوا فى منع الحرب بقدر ما فشلوا فى إدارة الصراع. لم تكن الصرخات التى تدق على أبواب البيت الأبيض باعثة على سعادة رئيس قرر الخروج من الشرق الأوسط، وتعهد فى نوبات الانتخابات بتشديد المواقف تجاه دوله مع تعليمها ضرورات «الديمقراطية».
.. جاء عقاب الشعوب للفاشلين بأسرع مما توقع أحد، وبدا أن الاختراق ضرورى برحلة إلى منطقة باتت كابوسًا لقادة أمريكا الواحد بعد الآخر، حيث ينتهى كل ابتعاد عن الإقليم إلى اقتراب لابد منه.
باتت الرحلة ضرورية، ومعها بات المشهد فى واشنطن كلاسيكيًّا للغاية، فمَن يعلم تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية سوف يجدها دائمًا واقعة بين شقى رحى المدرسة المثالية، والمدرسة الأخرى الواقعية. الأولى تزعم أن هناك مثالًا أمريكيًّا يحتوى قيمًا عليا سامية، تبَدّت فى إعلان الاستقلال، الذى كتبه «توماس جيفرسون»- الرئيس الثالث للولايات المتحدة، أحد الآباء المؤسِّسين للدولة- وهذه كانت عاكسة للمثال الأمريكى الذى تحلم به دول العالم. فى هذه المدرسة لا يوجد أثر لقانون «الفتنة والغرباء»، ولا للحرب الأهلية الأمريكية، ولا للاستعمار الأمريكى للفلبين، ولا للعبودية والتمييز العنصرى، ولا حروب مغدورة فى كوريا وفيتنام، ولا مذبحة «ماى لاى» جرت فى الأخيرة، ولا جرائم حرب فى سجن «أبوغريب» حدثت إبان الاحتلال الأمريكى للعراق، ولا خوض حرب فى أفغانستان بدأت بالإطاحة بطالبان، وانتهت بتسليمها العاصمة كابول مرة أخرى. المدرسة الأخرى تعرف حقيقة العلاقات الدولية الممثلة فى تفاعل دول وطنية لها مصالحها التى تبدأ بالبقاء وتنتهى بالسيطرة؛ وهذه هى التى انتصرت فى النهاية مادامت الحرب الأوكرانية لن تنتهى فى زمن قريب، ولا العقوبات سوف تحسم أمرًا حتى فى زمن بعيد. بات ضروريًّا البحث عن أرصدة جديدة فى منطقة فقدت ثقتها فى قدرات واشنطن على حسم الحروب، وفى أغلب الأحوال السلام أيضًا.
بدأت الرحلة فى واشنطن بمشهد حرب فكرية حول ما إذا كان الرئيس بايدن سوف يكون مخلصًا لوعوده أثناء الحملة الانتخابية، التى هدد فيها السعودية ومصر والعالم العربى فى عمومه؛ أم أنه سوف يكون واقعيًّا ويعود بالعلاقات العربية الأمريكية إلى سابق عهدها من سلام ووئام ونفط متدفق أسعاره تشفى أصوات الناخبين. لم تكن الحرب بين المعسكرين متكافئة، على الأقل داخل الحزب الديمقراطى حيث «الجناح التقدمى» الذى يتزعمه عضو مجلس الشيوخ «بيرنى سوندورز»؛ والجماعة الليبرالية التى تتصدرها صحيفة «الواشنطن بوست» وجماعات العمل فى واشنطن لنصرة أمريكا على أوطانهم العربية، وهما معًا يتفوقان بالصوت والصورة على الجماعة الأخرى. جاء الجزء الأول من رحلة الرئيس بردًا وسلامًا، فلم يكن على الرئيس إلا أن يستعين بكتاب كل الرؤساء الأمريكيين الذين زاروا إسرائيل قبله، وينقله نقلًا حرفيًّا فى القول والحركة. وضع الرئيس بايدن الخطة اليهودية على رأسه الكاثوليكى، وقرأ الصلوات فى مبنى «الهولوكوست»، وأكد بين كل لحظة وأخرى العلاقات العميقة والتاريخية مع إسرائيل، موضحًا فى نفس الوقت أنه لن يسمح بامتلاك إيران للسلاح النووى. وخلال ساعتين فى الضفة الغربية أكد حل الدولتين ليُسعد جميع التقدميين والليبراليين من الأمريكيين يهودًا ومسيحيين؛ فكما هو معلوم أن الموقف الحالى على أرض المنطقة غير مناسب، وكل ما يحتاجه الفلسطينيون الآن هو تحسين أحوالهم، وهو ما سيتحقق بمعونات يجرى التأكد من أنها لن تضيع هباء بالفساد. كانت «حماس» تقبع فى خلفية الصورة تحقق الوقت غير المناسب من خلال تشكيل كيانين فلسطينيين قبل مولد الدولة الواحدة.
المشهد الثانى كان فيه فصلان: أولهما قمة سعودية أمريكية، ورغم طول قائمة الأعمال فيها، فإن قضية النفط كانت على رأسها. وهنا علمت واشنطن أولًا أن هناك هدفًا تسعى إليه المملكة، وهو الوصول بإنتاجها إلى ١٣ مليون برميل يوميًّا (الإنتاج الحالى ١٠ ملايين ونصف المليون)؛ وثانيًا أن هذا الهدف مرتبط بالتزامات الدولة السعودية إزاء «أوبك» ومعها روسيا. والخلاصة أن المملكة سوف تسعى قدر جهدها لرفع الغمة عن الاقتصاد العالمى، ولكن أحدًا ليس عليه انتظار خلاص سريع. وثانيهما كان القمة العربية الأمريكية، وهذه شملت لقاءات ثنائية مع قادة أربع دول عربية- مصر والعراق والإمارات والأردن- وبعد ذلك شملت القمة تسع دول عربية تحدثت جميعها بموقف واحد: لا تدخل فى الشؤون الداخلية للدول، ولا حلف ضد دولة من دول المنطقة، والقضية الفلسطينية سوف تظل هَمًّا عربيًّا لن يعرف الشرق الأوسط استقرارًا قبل أن يكون له شفاء. فى العموم كانت اللقاءات العربية الأمريكية صريحة، وطرح العرب فيها حقيقة أن العالم لم يعد كما كان، وأن العودة بعد الخروج الأمريكى من المنطقة لا يمكن أن تجعل أحوالها كما كانت. وبعدما قال الجميع كلماتهم، وجرى تصوير الجميع فى صورة جماعية، ذهب الرئيس بايدن كما جاء، وبات عليه أن يعود مرة أخرى إلى واشنطن لكى يُحاسَب من جماعته التقدمية والليبرالية حسابًا عسيرًا. جاء تقييم الرحلة سلبيًّا، فأسعار النفط لم تنخفض بقدر ما أراد لها البعض، والمصارحات التى جرَت فى اجتماعات القمة بأشكالها المختلفة كانت من الصراحة إلى الدرجة التى جعلت الصحافة الأمريكية تُخفى ما قيل وتكفى على الأخبار أغطية سوداء. تذكر الجميع أن انتخابات التجديد النصفى قد اقتربت، ومن بعدها- ولا يعلم الأمور إلا الله- سوف تكون المواجهة الكبرى مرة أخرى فى الانتخابات الرئاسية بين بايدن وترامب!.