بقلم - عبد المنعم سعيد
معذرة إذا كنت قد استعرت عنوان مقال سبق أن نشرته فى «الشرق الأوسط» الغراء بتاريخ ١٨ أغسطس ٢٠١٠، وكانت افتتاحيته على الوجه التالى: كثيرا من الكتاب الإسرائيليين، والغربيين بشكل عام، قبلوا مقولة «أبا إيبان»، وزير الخارجية الإسرائيلى الأسبق، أن الفلسطينيين لم يتركوا فرصة للاقتراب من مطالبهم إلا وضيعوها، لكن لم يحدث أبدا أن تم تطبيق نفس المنطق على إسرائيل وقادتها. وفى أوقات سابقة فعلت ذلك مع آخرين، لكننا جميعا من كتب عن هذا أو ذاك فى فلسطين أو إسرائيل كنا نفعل ذلك بعد أن تنتهى الواقعة التاريخية ويصبح فى التقييم ترف غير قليل. كان من آثار هذا الموضوع قبل أربعة عشر عاما الزميل والصديق أيضا د. خليل الشقاقى، رئيس المركز الفلسطينى للدراسات السياسية والمسيحية فى رام الله، عندما ألقى محاضرة على الدارسين فى مدرسة جون كينيدى للحكومات بجامعة هارفارد، حيث أمسك بالفرصة السانحة آنذاك لإسرائيل، لكنه رأى كيف تضيعها، ومن ثم فإن ما يبدو سلاما سيصير حربا.كانت بداية الحديث أن الظروف من أجل السلام لم تكن مواتية مثلما هى مواتية آنذاك، فمن بين قادة فلسطين الكبار خلال المائة عام الأخيرة: الحاج أمين الحسينى، وأحمد الشقيرى، وياسر عرفات، ومحمود عباس، فإنه لم يوجد قدر الأخير من هو مؤمن بالحل السلمى، ومضاد للعنف المسلح، ومؤيد لحل الدولتين، ويفعل ويقول ذلك باستقامة كاملة ودون مراوغة أو التباس.
وفى الوقت الراهن فإن النضال الفلسطينى من أجل الدولة يأخذ منحى آخر بخلق مؤسسات الدولة، والعمل من أجل التقدم الاقتصادى، وهناك احتكار لوسائل العنف المسلح من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، كما هو حادث فى ذلك الوقت من خلال الجهود التى قام بها سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطينى. وفى نفس الوقت فإن حماس، وتيار الأصولية الفلسطينى، لم يكن أقل شعبية مما هو عليه آنذاك، كما أنه فشل فى احترام تعهداته للشعب الفلسطينى، واخترق واحدا من المقدسات الفلسطينية التى تمنع إراقة الدم الفلسطينى، بينما نجحت فتح ليس فقط فى تحقيق الاستقرار والأمن والتقدم الاقتصادى فى الضفة الغربية، وإنما أيضا عقدت مؤتمرها العام الذى أعاد توحيد صفوفها وكلمتها.
وإذا كانت هناك شكوى من قبل أن العالم العربى قد ترك القضية الفلسطينية لأهلها تملصا أو عجزا، فإن الحال لم يعد كذلك، وهناك مبادرة عربية لحل الصراع إقليميا، كما أن هناك لجنة متابعة عربية، وحضر جمع عربى كامل لمؤتمر «أنابوليس» (عقدة جورج بوش الابن قبل أن تنتهى ولايته الثانية)، وهناك شوق سورى كامل لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل. وعلى الجانب الآخر فربما لم تحصل إسرائيل على أمن مثلما حصلت عليه، فهى لم تحصل على السكون نتيجة معاهدات السلام مع مصر والأردن فقط، أو اتفاق الفصل بين القوات مع سوريا، وإنما حصلت عليه من خلال اتفاقات وتفاهمات دولية مع كل من حماس وحزب الله والسلطة الوطنية الفلسطينية فى غزة ولبنان والضفة الغربية. كذلك فإن غالبية الرأى العام الإسرائيلى توافق على حل الدولتين، وتستطيع الحكومة اليمينية أيضا آنذاك أن تعتمد على تأييد كامل من المعارضة حال توصلها إلى اتفاق سلام.
هل توجد «فرصة» لإسرائيل أكثر من ذلك لكى تعيش وتتعايش مع أهل المنطقة، أم أن الفرصة سوف تضيع كما ضاع غيرها وبأثمان فادحة؟ والكلام لايزال للصديق الدكتور خليل الشقاقى أن ضياع الفرصة هو الأمر المرجح، لأن الأحوال كما هى دائما قلقة وتنم عن عوامل متداخلة تجعل الفاصل دقيقا ما بين ظلمة الليل وضياء الفجر. قوات الأمن الفلسطينية التى حققت النظام وفرضت القانون هى فى نظر الغالبية من الفلسطينيين الآن قوة وطنية تعمل على بناء الدولة، لكن هناك من يظن أنها من المتعاونين مع الاحتلال، ومع ضياع الفرصة السانحة فإن وجهة النظر الثانية سوف تغلب وتضيع واحدة من ضمانات صنع السلام والتسوية. وتظهر استطلاعات الرأى العام الفلسطينى نتائج ملتبسة ومنذرة فى نفس الوقت بالنسبة لفرصة النجاح، فبينما تفضل الأغلبية من الرأى العام حتى الآن مفاوضات السلام إلا أن الأغلبية فى نفس الوقت لا تعتقد فى نجاحها. والأغلبية حتى الآن لاتزال تعارض العنف، إلا أن المعارضة تقل مع الوقت، وتزداد معه القناعة لدى ثلثى الشعب الفلسطينى أنه الحل الوحيد المجدى. وهناك من يؤيدون العصيان المدنى والمعارضة السلمية، لكنهم فى نفس الوقت لا يعتقدون فى جدواها.
صدقت إلى حد كبير تنبؤات د. خليل شقاقى ليس فقط فيما يتعلق بإسرائيل، وإنما أيضا بالفلسطينيين، وبقدر ما هو مشهود الآن من حالة الصدام المميت منذ هجوم حماس فى ٧ أكتوبر الماضى، فإن فرص السلام تبخرت. لم يكن الصدام الحالى جديدا، فقد سبق حرب غزة الخامسة أربع حروب كانت بمثابة التدريب على ما اعتبرته إسرائيل «محرقة» جديدة، أما بالنسبة للفلسطينيين فإن «النكبة» باتت مجسدة. حدث ذلك بعد أن أسفر الربيع العربى عن آلام كبرى نتجت عنها حروب أهلية تجاوزت الصراع العربى الإسرائيلى فى القسوة، وتحولت دول قائمة عن ميليشيات مقاتلة تخوض حروبها هى الأخرى مع إسرائيل وهى التى كانت تراها تحسب لصالحها فى إضعاف دول عربية. لكن على الجانب الآخر فإن معاهدات السلام الإبراهيمى قامت لكى تضاف إلى معاهدات السلام الإسرائيلية مع مصر والأردن، وظهرت مشروعات للتعاون الاقتصادى والغاز وحركة الطيران المدنى. ورغم ذلك حدث ما حدث من قبل بعد التقدم الذى جرى فى التسعينيات من القرن الماضى نتيجة أن إسرائيل فشلت تماما فى إدراك أن الاحتلال هو قضية لا يمكن تجاوزها أو استدراج جوهرها إلى متاهات معاداة السامية، أو إعطاء نفسها حقوقا مقدسة تفعل ما سبق فعله من قبل منظمات اتخذت من الدين الإسلامى مطية لها للحكم واستخلاص حقوق لم يعد لها معنى فى العصر الحديث. المؤكد هو أن التاريخ لم يبدأ مع السابع من أكتوبر، وإنما هناك تراكم تاريخى بلغ الآن أكثر من ثلاثة أرباع قرن.
الحقيقة أيضا هى أن إسرائيل الآن تفقد فرصة أخرى قد تكون الأخيرة حيث تشير استطلاعات الرأى العام الفلسطينى إلى أنه رغم عمليات التدمير والارتفاع الشديد فى أعداد القتلى والجرحى فإن الرأى العام الفلسطينى يميل نحو حماس أكثر من كافة القوى السياسية الفلسطينية الأخرى، وهو أكثر اعتقادا فى قيادة حماس خلال هذه المرحلة ربما باستثناء شخص مروان البرغوثى لكى يقود المسيرة. الواضح هنا أن نتيجة الغزو الإسرائيلى للقطاع قد قادت إلى نتائج عكسية وأفقدت إسرائيل فرصة تاريخية إذا كانت فى الماضى مبادرة السلام العربية، فإنها فى الحاضر ميل عدد من الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، كما أن استطلاع رأى الشعب الفلسطينى يؤكد ميلا متزايدا لقبول حل الدولتين، وهى فرصة لتحقيق سلام دائم.