بقلم - عبد المنعم سعيد
لا أدرى متى تحديدًا بدأتُ الاهتمام بكأس العالم لكرة القدم. هناك بعض خيالات تأتى من ستينيات القرن الماضى عندما برزت شخصية ساحرة سمراء برازيلية- بيليه- انتقلت من الهواية إلى الاحتراف، وجعلت من البرازيل أسطورة سرعان ما زارت مصر، فأصبحنا هواة في كرة القدم ومسابقاتها العالمية والإقليمية والمحلية.
لم يحدث الرشد إلا عندما خرج النجم الكبير من الساحة، بعد فوز بلاده بكأس العالم عام ١٩٧٠، ومن بعدها تعدد النجوم، الذين كان بينهم نجم لاتينى آخر من الأرجنتين، هو «مارادونا»، الذي لم تعجبنى سيرته الشخصية، حتى عندما سجل أهدافًا دخلت في دور المعجزات. أصبح التلفزيون قادرًا على نقل المسابقة العالمية، ورغم أنه لم يكن ملاحظًا إحباطًا لأن مصر كانت بعيدة عن هذا السباق العالمى، فإن الفوز بكأس الأمم الإفريقية في ١٩٨٦ ربما قرع أجراسًا كثيرة؛ وعندما حلت الفرصة في عام ١٩٩٠ فإن الخروج الشعبى المصرى إلى الشوارع احتفالًا بالمناسبة بأكثر مما بات معروفًا بعد ذلك بما سُمى الربيع العربى كان ظاهرة لافتة.
هالنى أيامها أن كبار كُتابنا العارفين بالنقد الرياضى أو الذين لا يعرفون أخذوا يدعون بالستر لفريقنا، والمتفائل منهم طالب بالتمثيل المشرف الذي بدا لى متخاذلًا، فكتبت مقالًا بعنوان: «لماذا لا نفوز بكأس العالم؟». أيامها، لطف بى الأستاذ الكبير نجيب المستكاوى عندما أشار إلى التعقيد الذي تمر به رياضة كرة القدم وكيف أنها تتطلب الكثير من الاستعداد والتراكم في الخبرة حتى نبلغ مثل هذه المرتبة. وقتها، كنت أعرف أن مصر كلها تحتاج هذه الخبرة في تطورها التاريخى؛ وظهر أن كرة القدم ليست استثناء من القاعدة العامة.
ثلاثة عقود وأكثر مضت منذ هذه المرحلة، توالت فيها مسابقات كأس العالم، وأصبح التلفزيون ليس ملونًا فقط، وإنما أصبح ناقلًا مباشرًا لكل ما يتعلق بالمونديال، وعندما سألنى صديقى، رحمه الله، عمر عبدالسميع، عن الفريق الذي أشجعه جاءت إجابتى الفورية «البرازيل»؛ فما كان منه إلا أن رزقنى بنظرة مَن يعتقد أن ذوقى الكروى «بلدى» تعجبنى المهارات الفردية، بينما الكرة مسرح عمليات ضخم لا يُجيد فيه إلا الكتائب الألمانية.
آلامى من غياب الفريق المصرى شبه الدائم عن المونديال سبق أن أوجزتها في مقال «أوجاع المونديال»؛ ولكن بغض النظر عن الحضور أو الغياب، فقد ظلت المسابقة مثيرة دائمًا للاهتمام. وكما يُقال فإن «الشاكوش» يظن دائمًا أن كل ما يشاهده هو «مسامير» تنتظر مَن يطرق عليها، فإن الأكاديمية السياسية جعلت من المسابقة قمة سياسية أخرى. هنا اللاعبون لا يلعبون، وإنما يتنافسون وهم يمثلون أممًا وشعوبًا وقبائل وطبقات اجتماعية وثقافات وحضارات، ومن خلال «الهجوم» و«الدفاع»، يحرزون أهدافًا معبرة عن «المصالح القومية». تذكرت ما وجدته في تراث وزير الخارجية الأمريكى، هنرى كيسنجر، من قول بأن الولايات المتحدة لن تكون دولة عظمى حقًّا إلا إذا تعلمت «كرة القدم» التي يلعبها العالم، وليست تلك التي تلعب بها أمريكا باليد. بدا غريبًا ضمن هذا المحتوى أن القوى العظمى الثلاث في العالم- أمريكا والصين وروسيا- ليست واقعة في الصفوف الأولى للمسابقة العالمية. بات مؤكدًا أن مكانة الدولة العظمى تختلف من منافسة إلى أخرى.
«مونديال الدوحة ٢٠٢٢» بدأ في الحقيقة قبل عشر سنوات، وكانت بدايته مثيرة عندما حلت المسابقة على دولة «عربية» صغيرة المساحة (١٢ ألف كم٢)، وقليلة السكان (الآن ٣٥٠ ألف نسمة)، وواقعة في منطقة مناخية عالية الحرارة والرطوبة. مبررات القبول بهذا الواقع ظهرت بشدة فيما رآه العالم كله عبر قناة رياضية قطرية خلبت الألباب خلال شهر من الأحداث المثيرة. السمة العالمية في رد الفعل إزاء المونديال كانت مُسمَّمة بالغيرة، وفى وقت كان العالم الغربى يتساءل فيه: لماذا حل مؤتمر المناخ- cop 27- في مدينة شرم الشيخ المصرية؛ وجاء كأس العالم إلى الدوحة القطرية؟. صحيفة «الجيروزاليم بوست» الإسرائيلية نشرت رأيًا يتساءل عن عودة «القومية العربية» من جديد. بدا العالم العربى معبرًا عن ظاهرة جديدة لا تبدو تكرارًا لظواهر قديمة، وإنما نوعية مختلفة ومتقدمة من الشباب العربى جاء منهم لاعبون هزموا الأرجنتين والبرتغال وفرنسا وإسبانيا، أو باختصار عمالقة كرة القدم، وتقدمت المغرب الصفوف حتى النهايات الأخيرة وسط احتفالات ودعوات عربية من المحيط إلى الخليج. المشهد على هذا النحو لم يكن معنيًّا بكرة القدم وحدها، ولكنه كان مُحمَّلًا بظاهرة معبرة عما هو أكثر. «الربيع العربى» قاد فعلًا إلى الفوضى والحروب الأهلية والتطرف الدينى؛ ولكنه دفع في اتجاه إصلاحى، ربما كان المشهد واحدًا من تعبيراته.