إيمانويل تود والانهيار

إيمانويل تود والانهيار

إيمانويل تود والانهيار

 صوت الإمارات -

إيمانويل تود والانهيار

بقلم:سوسن الأبطح

«أفضل ما يمكن أن يحدث لأوروبا هو أن تختفي الولايات المتحدة، عندها سنعيش في سلام».

هذه العبارة للمؤرخ والأنثروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود، ترددت كثيراً في الأسابيع الأخيرة، وتناولتها الأقلام والألسن، بالإعجاب والاستهجان والنقد، رغم أنها مجرد فكرة في كتاب يقارب الـ400 صفحة، وضع فيه تود، الرجل الذي يصغى لآرائه بعناية، خلاصة نتائج أبحاثه، وتنبؤاته بانهيار الغرب.

حساسية الجملة متأتية من التوقيت المفصلي الذي يصدر فيه الكتاب، بعد تورط أميركي أعمى في المغطس الأوكراني، بدعم عسكري بالأسلحة واقتصادي وإعلامي، من دون أن تنجح هذه الجبهات في كسر روسيا، بل على العكس قسمت ظهر أوروبا. ثم تورطت أميركا في غزة، ليس أخلاقياً فقط بل بالتسليح والتخطيط والتنفيذ، ولا يزال الغرب عالقاً في وحولها، فيما تأتي دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، في محكمة العدل الدولية، بمثابة ناقوس إنذار، لتحذر من خطر التمادي في الانسياق وراء الجرائم الإسرائيلية.

إيمانويل تود، لا يزال يذكر كثيرون أنه أول من تنبأ بانهيار الاتحاد السوفياتي وكان ذلك عام 1976 في كتابه الشهير «السقوط النهائي»، الذي صدر قبل 13 سنة من إزالة جدار برلين. لهذا يشعر المناوئون لتود، حتى المعترضون على ما جاء في كتابه الجديد «هزيمة الغرب» من تنبؤات علمية غير شعبية، بشيء من المهابة أمام ما سطره، وإن كانوا يتمنون ألا تتحقق تصوراته.

أمران يشدد عليهما بأنهما سيجعلان الغرب في دائرة الهزيمة، وبشكل خاص أميركا؛ لأنها البؤرة والمركز. «العدمية» التي وصلت - بسبب اختفاء القيم الدينية من المجتمع، ما خلق قلقاً وجودياً، وبحثاً دائباً عن بدائل - حدّ التخبط والضياع. وربما اللحظة الفصل هي عندما تم تشريع زواج المثليين، بقرار يجسد قمة التخلي عن كل ما سبق. أما الأمر الثاني فهو تهاوي الديموغرافيا بشكل هائل، حيث إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لم تعد تسمح بزواج وإنجاب، وبناء أسرة، وإقامة نسيج اجتماعي متماسك.

إيمانويل تود، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين، ماكس فيبر، وإيميل دوركهايم، ليس رجلاً إصلاحياً، ولا مبشراً دينياً، ولا يريد أن ينظر إليه بوصفه أخلاقياً متعنتاً. البحث في البيانات والأرقام، والبنى الأسرية التي يجيدها تقوده بصفته أنثروبولوجياً إلى خلاصات لا يستطيع أن يفلت منها.

ماكس فيبر له نظرية، تربط صعود الغرب الليبرالي بازدهار البروتستانتية في البلدان التي تعتنقها، مثل بريطانيا وألمانيا، وأميركا وهولندا، وازدهرت الحرية الفرنسية بفضل جيرتها لألمانيا. البروتستانتية التي ربطت الدين بالعلم وقراءة الكتاب المقدس، وضرورة القضاء على الأمية، وأنجبت أشرس أنواع العنصرية، سواء هتلر في ألمانيا أو عبودية السود في أميركا، هي نفسها التي سيصبح ضعفها سبباً في السقوط. لهذا يرى إيمانويل تود أن فهم النهوض الغربي وأسبابه يساعد على إدراك أسباب الانحدار أيضاً الذي يتزامن والتخلي كلياً عن المبادئ البروتستانتية حتى في تمظهراتها الاجتماعية والعائلية. ولا يستغرب والحالة هذه أن يبدأ التدهور في المؤسسات التعليمية، ويبدو أن الجامعات الأميركية، تتقهقر بسرعة في عدد الدراسات التي تقدمها، وعدد المهندسين الذين تخرجهم، كما أن عدد الوفيات بين الأطفال بات أعلى منه في كثير من الدول الأوروبية، وحتى في روسيا، مع تراجع النظام الصحي.

هذه الرؤى التي وصفها البعض بـ«الأبوكالبسية» المتشائمة، وتبالغ في السوداوية، لا تمنع تود من التأكيد على أن روسيا ليست هي من تحفر الفخاخ لأميركا ولا أي دولة أخرى، بل إنها هي التي تمارس نوعاً من «الانتحار الذاتي» وأن الهزيمة ستكون أخلاقية واقتصادية، لأن الغرب كله يذهب إلى انتهاج «مسار عدواني غريب».

يردد تود باستمرار أنه يبني على قواعد علمية متينة، وأرقام وإحصاءات، وأنه قام بدراسات وافية حول الطبقة السياسية الأميركية الحالية، ليفهم توجهاتها، ويصفها بأنها «بلا أخلاق، ولا صلة لها بالدين، وتحب المال والحروب، لا بل لها متعة في زرع الفوضى في العالم. وهذه هي العدمية».

وهو ما يعد نوعاً من النخر الذاتي في بنية باتت شديدة الهشاشة. «روسيا لا تريد غزو الغرب، ولا طاقة لها بذلك، خاصة أنها تعاني من ديموغرافيا شديدة الضعف لا تسمح لها حتى بالتفكر في الأمر».

الاتهامات لإيمانويل تود بمناصرة بوتين، تأتي من كل جانب، وثمة من يعده محافظاً أخلاقياً. الكاتب دومينيك سيمونيه، يظن أن هذه الآراء «مذهلة» و«غير واقعية» و«استفزازية»، وأن إيمانويل تود يتبنى دائماً وجهات نظر متناقضة حتى يتحدث الناس عنه. لأنَّ بوتين هو الذي غزا أوكرانيا، على عكس ما يلمح إيمانويل تود بقوله إن الولايات المتحدة استفزت روسيا. و«هذا لا يوجد إلا في خيالاته».

وثمة من يجد أن تود كان باستمرار منتقداً شرساً لأوروبا الليبرالية، و«محافظاً يسارياً، ينشر كتباً سميكة وكثيفة، تمكَّنت أطروحاتها من إثارة الحماس والفزع»، كما كتب سيمون بلين الصحافي في «ليبراسيون».

لكن الاهتمام الشديد بكتاب إيمانويل تود الجديد، الذي لا يأتي على ذكر غزة - وإن كان بمقدور القارئ أن يضعها في السياق - والتساؤل المتزايد حول صحة التحليلات، والخوف من تحقق بعض ما ورد فيه، تؤكد أن ما كل ما يقوله إيمانويل تود، هو للترويج، وإنما يضع اليد على الجرح في وقت يتزايد فيه الإحساس في الغرب كله بأن الآتي لا يدعو للطمأنينة أبداً.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إيمانويل تود والانهيار إيمانويل تود والانهيار



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 06:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين
 صوت الإمارات - العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates