دول أوروبية عديدة وصل فيها اليمين الشعبوي إلى السلطة في السنوات الأخيرة، لكن العالم لم يبد مكترثاً أو مرتجفاً، كما هو الحال في فرنسا.
باريس ليست المجر ولا البرازيل ولا الأرجنتين، ولا حتى إيطاليا. كان فرنسوا ميتران يسافر ومعه الروائية فرنسواز ساغان، صاحبة «صباح الخير أيها الحزن»، ويتنقل ماكرون بصحبة ليلى سليماني الروائية المغربية سفيرةً للفرنكوفونية والانفتاح اللغوي والأدبي. وتباهي عاصمة النور بتصاميمها وعطورها ومطبخها، وزخم الإبداع الذي يخرج من «فوبور سانت أونوريه»، وصيحات الموضة التي توزعها على العالم. كل ذلك خبا وبات المنافسون كثراً. لكن فرنسا تعيش على إشعاع ماضيها، وبقوة الدفع الذاتي، ويرتاح محبوها لهذا الإرث، ويسهمون في إبقائه حياً أطول فترة ممكنة.
نوع من التواطؤ الغريب بين عُشَّاق الثقافة الفرنسية وبلد الأمجاد التليدة المتمسك بأطراف العز. ورغم أن إيطاليا فيها من جمال المعمار والرسم وبهاء الشواطئ وروعة التنوع ما يفوق فرنسا، فإن ما نسجته باريس من عرى معرفية وأدبية، عبر جامعاتها وخريجي مدارسها المنتشرة حول العالم، والعاطفة تجاه لغتها، جعلها تتفوق بالسحر الذي تمارسه على تلامذتها وقراء أدبها وروادها.
كل هذا بدا مهدداً، بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية. شعر أصدقاء فرنسا بأن نموذجاً ينهار وتحل مكانه آيديولوجيا تريد استبدال بلد يباهي بثورته من أجل الإخاء والمساواة، بفكر تقسيمي يصنف الناس تبعاً للألوان والأجناس، والأهواء، والأديان، وكل ما يمكن أن يفتّت بدل أن يجمع.
الرعب لم يستبدَّ بالمهاجرين وحدهم؛ طال كل مؤمن بالتنوع والتثاقف. بكى فرنسيون كثر، خشوا على سمعتهم، وما تبقى من وهج بلادهم. وجدوا أنفسهم يدخلون نفق «صراع الهوية» واهتزاز الأمن، ونزاعات دينية، وتسييس لبنى ثقافية راسخة. ثمة رغبة لدى «التجمع الوطني» المتطرف في إعادة تشكيل البلاد، من منظوره القومي، وبسرعة.
قامت تحالفات على عجل، انسحابات متبادلة بين أحزاب لا تكنّ لبعضها أدنى ودٍ، ذهب إلى الصناديق مَن لم يكن يصوّت من قبل، بدَّل بعض ناخبي اليمين المتطرف آراءهم بعد موجة التحذيرات الهَلِعة، الآتية من كل صوب.
استنفار رهيب في فترة قياسية، تمكَّن خلالها مناهضو «التجمع الوطني»، بتعاضدهم، من تغيير المعادلة، بفعل تكتيكات غير معهودة. نامت فرنسا يمينة متطرفة، واستفاقت إلى اليسار.
لحسن الحظ، فهم كثيرون أن المتطرفين باتوا خطراً داهماً، وما يطالبون به أشبه بالهلوسة الهدامة.
خسر «التجمع الوطني»، بفضل زلات اللسان، تعاطف 3 ملايين من مزدوجي الجنسية بعد كلام عن حرمانهم من وظائف عامة. استنفر فنانون وكُتّاب وسينمائيون ومسرحيون ومترجمون ورسامون وناشرون يعانون أصلاً من سياسة ماكرون التقشفية اتجاه الثقافة.
اتحدوا، كما الأحزاب السياسية، لتشكيل سد في وجه هجمة فاشية سيكونون أول ضحاياها. تجمُّع المترجمين الأدبيين اعتبره «زلزالاً سياسياً» سيعصف بهم. كتاب الشباب والأطفال أعلنوا معارضة مَن يريد «إلغاء التنوع وخفض الدعم الثقافي».
في مدن فاز ببلدياتها متطرفون يمينيون، سابقاً، أُغلقت مقاهٍ ثقافية، مورست رقابة على أدب الأطفال والمكتبات، خُفض الدعم المالي، تم تنصيب قريبين من التجمع في مواقع مؤثرة، للتحكم بمسار الإدارات.
البرنامج الثقافي للتجمع اليميني غامض، يبني في العمق على تغيير الفكر من خلال الاستيلاء على السلطة. نوع من التخطيط الاستباقي.
يتمحور البرنامج على التراث والتقاليد، والقيم الدينية، وإعادة ترميم الكنائس، وخصخصة وسائل الإعلام، وتقييم المواطنة على أساس الدم والعرق. لا تعرف ما يمكن أن يفعله هؤلاء بأمين معلوف الذي نُصب أميناً عاماً للأكاديمية الفرنسية، أعلى هيئة مؤتمنة على لغة موليير؟ أو كيف يمكنهم وصف دور وزيرة الثقافة السابقة، اللبنانية الأصل ريما عبد الملك، أو وزيرة الثقافة الحالية من أصول مغاربية رشيدة داتي، أو حتى وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي تبين أن له أصولاً جزائرية.
ومن المفارقات أن الوجه الأبرز لليمين المتطرف، جوردان بارديلا، الشاب الذي قاد الحملة الانتخابية، وساق هجوماً على المهاجرين، هو نفسه أصوله مغربية، وجده لا يزال يعيش هناك.
مؤثر أن ترى المفكر إدغار موران، يوم احتفاله بعيد ميلاده الثالث بعد المائة، قَلِقاً ويحذر من أن فوز اليسار، هذه المرة، لا يعني أن الخطر قد زال. فكما الألمان والروس والفرنسيون في عهد فيشي، يمكن لأي شعب أن يغرق بسهولة في الظلام. «لا أريد أن أكون يائساً، ولا أن أعطي أملاً كاذباً».
فقد نمت فرنسا وتطورت، بفضل الهجرات المتلاحقة والمهاجرين الذين ذابوا وتزاوجوا وتناسلوا، فيها من إسبان إلى برتغاليين ومغاربة وأفارقة وشرق أوسطيين. فمن يمكنه اليوم أن يدعي القدرة على إعادة فرنسا إلى صفائها العرقي، غير مجانين يعيشون في حمى الأخيلة.