بقلم : حسين شبكشي
هناك قناعة متزايدة في الأوساط العلمية المرموقة بأنه في أقل من عقد من الزمان سيتمكن العقل البشري من توجيه أوامره مباشرة لأعداد متزايدة من الأجهزة الإلكترونية المعقدة، وسيكون ذلك عن طريق شرائح إلكترونية بالغة الدقة والتعقيد. وهذا الذي جعل جيليان تيت، محررة التقنية بصحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية الرصينة، تقول إن «الأعوام الماضية كانت تدار على فرضية أن ميزان القوى في العالم يتحكم فيه المصدر، أو كما سماها المؤلف البريطاني المختص في شؤون الطاقة دانيال ييرغن (الجائزة). أما الآن فالشرائح الإلكترونية هي النسخة الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين من الوقود الأحفوري». إذا كانت المواقع الجغرافية لمناطق وجود النفط هي التي كانت تحدد التحديات الجيوسياسية في العقود الخمسة الأخيرة، فإن مواقع وجود مصانع الشرائح الإلكترونية ستشكل السنوات الخمس المقبلة... إنها الجيوسياسة الجديدة.
ورغم أن الولايات المتحدة كانت نقطة انطلاق صناعة الشرائح الإلكترونية؛ فمنذ 30 عاماً كانت أميركا تسيطر على صناعة أكثر من 37 في المائة، فإن النسبة اليوم لا تتجاوز الـ12 في المائة. واليوم أكثر من 80 في المائة من هذه الصناعة المهمة يوجد تحديداً في القارة الآسيوية؛ مع تركيز مهم جداً لصناعة الشرائح الإلكترونية المتقدمة بوجودها الاستراتيجي في تايوان. وهذا يضع المواجهة المتوقعة بين الصين واستعادتها المتوقعة بالقوة لتايوان في صورة مختلفة تماماً تجعل مقارنة اجتياح روسيا أوكرانيا بها أشبه بنزهة في الحديقة.
وهذا يفسر تماماً حالة الارتباك الشديد داخل دوائر التشريع في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين قررا تقديم حوافز مالية تشجيعية ضخمة وغير مسبوقة لجلب مزيد من صناعة الشرائح الإلكترونية إليهما، وذلك تحسباً لمرحلة ما بعد سيطرة الصين على تايوان.
ومؤخراً؛ وخلال «منتدى آسبن للأمن»، صرح كل من ويليام بيرنز رئيس «الوكالة المركزية للاستخبارات الأميركية»، ورئيس الاستخبارات البريطانية، بأن الصين أصبحت التهديد الأكبر والتحدي الأهم للغرب. وأضاف «رئيس الوكالة المركزية للاستخبارات الأميركية» أن استحواذ الصين على تايوان يتعلق بالكيفية الممكن حصولها وليس بفرضية حدوثها. وهو المنتدى نفسه الذي تحدث فيه بات جيلسينغر، الرئيس التنفيذي لشركة «أنتل» عملاق صناعة الشرائح الإلكترونية في أميركا، وحذر من خطورة إبقاء السيطرة الآسيوية على صناعة الشرائح الإلكترونية وهيمنتها عليها، وأوضح أن شركته تمارس وتقود قوى ضغط على الكونغرس الأميركي لتقديم 52 مليار دولار دعماً لصناعة الشرائح الإلكترونية في أميركا.
هذا المشهد المعقد والمهم جعل ثعلب السياسة الأميركية المخضرم هنري كيسنجر، والبالغ من العمر 99 عاماً، يعلق بقوله إن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة بلغت اليوم مستوىً مختلفاً عما كانت عليه من قبل، وإن التقنية الحديثة أصبحت لاعباً مؤثراً في تلك العلاقة، وبالتالي فأي حرب بينهما ستكون لها تداعيات وأبعاد لم نكن نعرفها أو نتصورها في العقود الثلاثة الأخيرة. ويضيف أن هناك مسؤولية مشتركة تقع على عاتق البلدين، وهي ضرورة البقاء على تواصل للسيطرة على مخاطر الذكاء الصناعي في ترسانات الأسلحة الموجودة لديهما والتقنيات الأخرى؛ لأن التحديات في هذا المجال لم يسبق أن واجهتها أي دول في الماضي؛ بحسب قوله.
الغرب يتعامل مع وضع صناعة الشرائح الإلكترونية في آسيا ورغبته الملحة في تنمية القاعدة الصناعية لها في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأوروبا على أنهما مسألة وجودية لا تحتمل التأخير، والتأخير فيها يمنح الخصم الصيني مزايا قوية تزيد من التكلفة على المعسكر الغربي.
اجتياح روسيا أوكرانيا عدّه الغرب فرد عضلات من «فتوة» على أرض الجار أثر في اقتصاد العالم، وساهم في التضخم بشكل كبير، وفاقم من اضطرابات سلاسل الإمداد، لكن غزو الصين تايوان سيكون مختلفاً تماماً؛ نظراً إلى ثقل الصين الاقتصادي والمالي في العالم، وأهمية تايوان القصوى في صناعة الشرائح الإلكترونية المتقدمة للعالم.
صناعة الشرائح الإلكترونية ستكون موقعاً لمواجهات جيوسياسية في جيوب مختلفة؛ خصوصاً في فترة السنوات الخمس المقبلة، وهي مسألة في غاية الأهمية؛ لارتباط كثير من الصناعات المهمة بها، بدءاً من السيارات والأجهزة المنزلية، ووصولاً إلى «إنترنت الأشياء». إنه العالم الجديد الآخذ في التشكل.