لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران

لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران؟

لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران؟

 صوت الإمارات -

لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران

بقلم : نديم قطيش

لو تجاوزنا الفارقَ الهائلَ في الحجم الجغرافي والسياسي والاقتصادي، لأمكننا أن نسألَ التالي:

لماذا تحرَّرت الصين نسبياً من أسر الآيديولوجيا ونجحت في إعادةِ ابتكار نفسِها والتحول إلى قوةٍ اقتصادية وسياسية «بجسم رأسمالي ورأس شيوعي»، في حين تظلُّ إيرانُ غارقةً في جمود عقائدي يجعل التغييرَ الجوهريَّ محفوفاً بالمخاطر ومدخلاً أكيداً للانهيار؟

قدَّمت الصين، لقرونٍ طويلة، تجربةً براغماتية فذة عبر قدرتها على التكيف والتغيير، من دون أن تفقد قبضتها على السلطة المركزية القوية التي أعطت الأولوية دوماً للاستمرارية والبقاء. ولعلَّ الشعارَ الذي أطلقه الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ بشأن إصلاحاتِه الاقتصادية عام 1978، مفتتحاً تجربة «إعادة تعريف» الشيوعية، ينطوي على خلاصة هذا النهج الذي اختصر شخصية الدولة في الصين. قال دينغ: «لا يهمُّ ما إذا كانت القطة سوداء أم بيضاء، طالما أنَّها تصطاد الفئران»، مطلقاً مساراً معقداً سمح للصين بتبني اقتصاد السوق مع الحفاظ على قبضة الحزب الشيوعي الحديدية على السلطة.

كما استفادت الصين على مر تاريخها من الإرث الكونفوشيوسي، الذي تؤكد قيمه الرئيسية على النظام والهرمية وأولوية الدولة، ما عزَّز ثقافةَ الحكم البراغماتي في الصين. سهلت هذه الخلفية الثقافية على قيادة الحزب الشيوعي الصيني تبرير الإصلاحات الاقتصادية بحكم الضرورة لبقاء الدولة، وصاغت تبنيها للرأسمالية كمجرد وسيلة لتحقيق الهدف الاشتراكي النهائي، وهو الازدهار للجميع.

في مقابل هذه الاستمرارية في شخصية الدولة في التجربة الصينية، نعثر في إيران على انقطاع واضطراب عميقين. لم تكن الثورة الإسلامية عام 1979 - 1978 مجردَ حدث سياسي كبير، بل كانت إعادة ترتيب عميقة للمجتمع الإيراني. فقد دمجت الخمينيةُ الدينيَّ والمذهبيَّ بالسياسي وألصقتهما بصمغ الحماس الثوري وبنظام سياسي يعرِّف الدولة كولاية إلهية، يَعدُّ أيَّ انحراف عن مسارها خيانةً للأولوهة نفسها. ولئن كانت الدولة في إيران ليست مجرد كيان سياسي؛ بل تجسيد أرضي لمضامين سماوية غيبية، بدَّد هذا التصور القدرة على توظيف المرونة البراغماتية كما فعلت الصين. فكل دعوة في إيران للإصلاح الاقتصادي أو الاجتماعي لا تُعد فقط خطراً سياسياً، بل أيضاً خطراً روحياً يرفع دعوات التغيير إلى مستوى الكفر.

وإذا صحَّ أنَّ السيطرة المركزية للحزب الشيوعي الصيني تماثل في الظاهر سيطرة نظام ولاية الفقيه على المجتمع الإيراني، إلا أن هيكل إيران السياسي أكثر تعقيداً وهشاشة. فالمكونات الدينية للنظام في إيران تتعايش مع المكونات الجمهورية، والمكونات العسكريتارية وفق توازن دقيق، يجعل أي محاولة للإصلاح مغامرةً محفوفة بالمخاطر.

الأهم من ذلك أنه، وخلافاً للتجربة الإيرانية، وفر النجاح الاقتصادي الذي انتهت إليه التجربة الصينية، للحزب الشيوعي مصدراً جديداً للشرعية، وقدرة حاسمة على تحييد المعارضين وفرض نموذج متناقض، أي اقتصاد رأسمالي تحت حكم شيوعي، من دون الإخلال بالهوية الوطنية أو دفع أثمان باهظة جراء عدم النقاء العقائدي للنظام.

فإذا كانت كل من الصين وإيران ترتابان بالتهديدات الخارجية، فإن ردود أفعالهما اختلفت بشكل جذري. استخرجت الصين حصانتها ومكانتها من النمو الاقتصادي والتحديث العسكري وسائل لمواجهة النفوذ الأجنبي، ووظفت القومية والنجاح الاقتصادي لتوحيد البلاد من دون أي خشية من آثار التغيير الهيكلي العميق الذي تراكم منذ عام 1978. في المقابل، استخدمت القيادة الإيرانية فكرة التهديدات الخارجية، خصوصاً من الولايات المتحدة وحلفائها، ولا تزال كتبرير لموقفها الآيديولوجي الصارم المانع للتغيير، والمتوجس من أن يؤدي أي تعديل آيديولوجي إلى إضعاف قدرة إيران على مقاومة النفوذ الأجنبي وانهيار الدولة الثورية.

أثبتت الشيوعية الصينية أنها قابلة للتكيف، وقادرة على التطور استجابة للظروف المتغيرة مع الحفاظ على جوهر قوة الحزب الشيوعي. واستفادت من ثقل وزنها الاستراتيجي لبناء علاقات متوازنة مع خصومها عبر بناء الجسور والمحافظة على التمييز والتنافس في الوقت نفسه. أما الآيديولوجية الدينية الإيرانية، فهي متجذرة بعمق في هوية مضطربة للدولة، تعدُّ أن أي تغيير جوهري يهدد بتفكيك نسيج الثورة الإيرانية، مما قد يؤدي إلى انهيار النظام.

تجدر الملاحظة أن بدء التغيير في الصين تزامن مع ولادة الثورة الإيرانية عام 1978، وبعد حكم للحزب الشيوعي الصيني دام منذ خريف عام 1949. فهل ما زال أمام إيران الوقت لتغيير اتجاه الأمور؟ يبدو أن طريق الإصلاح، بالنسبة لإيران، ليس مجرد تحدٍ، بل تحدٍ وجودي، إذ إن بقاء النظام يعتمد على الحفاظ على نقائه الآيديولوجي، حتى مع ازدياد عزلته عن المجتمع الدولي وتبديده المستمر لإمكاناته الاقتصادية، وفي ظل افتقاره المريع للحدود الدنيا من القدرة على التكيف.

تبدو إيران اليوم أقرب إلى تجربة الاتحاد السوفياتي منها إلى الصين، كما يلاحظ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت. كما روسيا السوفياتية تعاني إيران الخمينية من التكلس العقائدي والفساد وانقطاع الصلة بالمجتمع، ومثلها قد تكتب نهايتها بنفسها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران لماذا تغيَّرت الصين ولا تتغير إيران



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates