جاسم والهدهد والجرف

جاسم والهدهد والجرف

جاسم والهدهد والجرف

 صوت الإمارات -

جاسم والهدهد والجرف

بقلم - مأمون فندي

أشار فيليب إلى طائر الجيه الأوراسي شبيه الهدهد الذي جاء بالقرب مني ليلتقط حبة العنب التي يضعها له فيليب يومياً في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر في المقهى المطل على شاطئ المحيط الأطلسي في جنوب البرتغال، في منطقة مدهشة اسمها الجرف Algarve، وقال لي «انظر إلى جاسم. أليس طائراً مدهشاً؟ يجيء إلى هنا كل يوم في الموعد نفسه منذ أكثر من عشر سنوات، يلتقط حبة العنب ويذهب إلى حال سبيله». فيليب يحب أن يسمي مقهاه الذي يقع على الناحية الأخرى للمحيط من مدينة طنجة المغربية وجزيرة ماديرا البرتغالية، يسميه Paradise أي الجنة، وهو كذلك فعلاً في سكينته وجمال موقعه وهدوئه. ومع ذلك فاسم المقهى الرسمي هو «ميرادور» ومن معانيه البرتغالية «البرج».
شغلني أصل الاسم الذي أطلقه فيليب على الطائر (جاسم) وودت أن أسأله عن السبب ولكنه كان مشغولاً بزبائنه ولم أكن أنا إلا واحداً منهم، ولم أتطلع إلى اهتمام أكثر مما أعطاني إياه. وكان عليَّ أن آتي في يوم آخر لأعرف المزيد عن سبب تسمية طائر هذا المقهى الذي تحس فيه أن المساحة كلها سماء ونجوم... مساحات لا تميز فيها الداخل من الخارج أو السماء من البحر. وأطلقت قدمي في المنتجع الواسع بين ملاعب الجولف وأشجار الصنوبر الكثيفة التي تمنحك شعوراً كأنك تسير في غابة لا في مصيف. وعرفت فيما بعد أن المنتجع مبنيٌّ على مساحة تقرب من المائة فدان وبدأ العمل فيه منذ ثمانينات القرن الماضي إلا أن افتتاحه تم عام 1992، أي منذ ثلاثين عاماً.
الطائر ذاته مرسوم كعلامة تجارية على واجهة المنتجع، ولولا حديثي السابق مع فيليب ربما لم أنتبه إلى ذلك. في تصوري أن عيوننا لا ترى إلا الذكرى التي ينبهنا إليها الآخرون، فنرى القصة أكثر من رؤيتنا للأشياء.
زرت فيليب في اليوم التالي، وجلست ساعة في انتظاره وانتظار الهدهد، ولما ظهر فيليب لم يكن على بالي إلا الآية الكريمة «وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين»، ولكن كيف تترجم إحساس الآية الكريمة لرجل يَدين بغير دينك وفي سياق غير السياق، وأنا لست ممن يحبون ترجمة المقدس، فمهما حاولت فالإحساس هو الذي يسقط في الترجمة.
حكى فيليب عن سبب التسمية واصفاً رجلاً كويتياً أسمر قادماً من بعيد اسمه «جاسم البحر» جاء إلى الجرف في ثمانينات القرن الماضي وبنى كل هذا الذي تراه، فقد كان المكان أشبه بالبراري على حافة جرف المحيط، وما تراه هو رؤية هذا الرجل، رؤية جاسم، شيء من روحه، والهدهد سُمِّي باسمه.
جاسم البحر أحبَّ هذا المكان الذي بناه من مخيلته وصعدت فيه روحه إلى باريها عام 2008، قالها فيليب وترقرقت في عينيه دمعة، وأشار إلى ذراعه قائلاً: «كلما أتذكر هذا الرجل أحس بقشعريرة تسري في جسدي. لو لم تقابل الرجل في حياته، ومشيت في هذا المكان، البحر والهدوء والألوان، لأحسست بروحه، فمعرفتك بجاسم الآن تشبه معرفتي به، فالرجل هو المكان، هادئ وعميق التفكير وبسيط أيضاً، مثله مثل المكان ومثل الهدهد أيضاً، يرضى بحبة العنب لنفسه، ولكنه يحلق بعد أن يأكلها». سرحت في الصور التي رسمها فيليب وبقيت في المكان حتى ما بعد غروب الشمس بكثير. أذكر أن الهدهد في ثقافة مصر القديمة يعبّر عن الرؤية وعن الغموض معاً، وكان المصريون القدماء يربّون طائر الهدهد في بيوتهم، وكان فيه من روح حورس وعين حورس الثاقبة. في الثقافة الفارسية والتركية هو طائر ملكي مكلل بتاج على رأسه وفيه رمزية الأنفة، ولكنه في الطبيعة طائر فرداني لا يختلط كثيراً بالطيور الأخرى ويؤدي مهامه بمفرده. بقيت في المقهى حتى ظهور النجوم وحتى اختلط البحر بالسماء أتأمل المكان الذي يكاد يكون كله سماء لا أرضاً.
قضيت أسبوعين في هذا المنتجع الذي يعجّ بالسائحين، ومعظمهم من الإنجليز، في الحقيقة عرفت عن هذا المكان من صديقات ابنتي في المدرسة وقد اعتدن قضاء الصيف فيه مع عائلاتهن فازداد شغفنا للمجيء. ولم ألمح وجهاً عربياً واحداً هنا، وهذا عكس ما تراه في الجنوب الفرنسي أو الإسباني.
كتبت هذا الجزء من ملاحظاتي عن حديثي مع فيليب كقصة تصلح لكتابات الصيف والسفر من دون أن يغيب عن ذهني البعد الأكثر عمقاً المتعلق بتاريخ تلك المنطقة وعن التشابكات بين تاريخ العرب والبرتغال بدءاً من معارك السلطان قنصوة الغوري معهم ومحاولة مواجهتهم في عدن وسوقطرة من أجل الحفاظ على تجارته مع الهند، معركة كانت خاسرة بالنسبة للمماليك في مواجهة قوة بحرية برتغالية سيطرت على البحار بعد اكتشاف فاسكو داجاما طريق رأس الرجاء الصالح. ولا نغفل عن سيطرة البرتغاليين على الموانئ الخليجية من جدة حتى مضيق هرمز. ولكن ماذا عن جاسم البحر الذي يسبح ضد التيار القديم في توجه معاكس إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، رجل الهدهد، وما الذي أتى به من بعيد إلى هنا؟
عرفت أن جاسم البحر رجل أعمال كويتي جاء إلى البرتغال في ثمانينات القرن الماضي وبنى كل هذا النجاح الأخّاذ والمذهل. إن النجاحات في معظمها فردية، والأفراد لا الحكومات هم من لديهم روح المغامرة والمبادرة. عبّرت لابنتي عن هذه الفكرة وذكّرتني بأن عدداً ممن كانوا يتنافسون على قيادة حزب المحافظين في بريطانيا هم من أصول غير بيضاء، مثل العراقي ناظم زاهاوي والباكستاني ساجد جويد والهندي ريشي سوناك. أفراد بنوا لأنفسهم ولأولادهم مجداً لأنهم كانوا وما زالوا مصرّين على النجاح، وكذلك كان جاسم.
النماذج الفردية الكويتية ذات الرؤية من شباب طموح يسلك اليوم طريقاً مغايراً في بلد قريب فينجح نجاحاً مبهراً إلى رؤية رجل حقق طموحه مثل جاسم البحر، هي نماذج يجب الاحتفاء بها، ولكن يبقى اللغز الكبير؛ لماذا ينجح الأفراد في بلداننا بينما يتعثر كثير من الحكومات؟ وماذا لو تخيلنا حكومات تشبه مبادرات الأفراد في طموحاتها وخيالها؟ ربما كنا اليوم في مكان آخر وعلى حال آخر.
جاسم سليل قوم في جيناتهم روح المغامرة من الغطس بحثاً عن اللؤلؤ إلى جوب عباب البحر إلى الهند تجارةً، محاولات للخروج من الخليج الضيق، وما خروجه إلى شبه الجزيرة الأيببرية ومنها إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا إلا امتداد لروح المبادرة والمغامرة برؤية جديدة.
ما قبل السفر قررت زيارة فيليب لأودّعه وبعد السلام أدرت ظهري في طريقي إلى المطار ولكن بعد مسافة ليست ببعيدة أدرت النظر لأودّع المكان فرأيتُ الطائر مرة أخرى (جاسم) ولم أتبيّن هل هو قادم لالتقاط حبة العنب أم أنه التقطها وفي طريقه إلى حال سبيله.
ولكن تبقى قصة النجاحات الفردية في عالمنا العربي كمصدر إلهام للأجيال القادمة هي لب هذا المقال وذروة سنامه، وتلك هي قصة جاسم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جاسم والهدهد والجرف جاسم والهدهد والجرف



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates