بقلم - فـــؤاد مطـــر
هذا النحو من الكلام الذي صدر عن أولياء أمور القوى الحزبية بتنوع كياناتها، بعدما وضعت العملية الانتخابية أوزارها الثقيلة الوطأة على نفوس اللبنانيين، أمر يُحمد عليه قائلوه وبصرف النظر عن الجهد الذي بذله كل من هؤلاء لترويض مقاصده من بعض العبارات كي لا يفسر الجمع الشعبي على أن سيد الحزب كما رئيس الحركة كما صنوه رئيس القوات فرئيس التيار ورأسي إرث الجد والابن ومع هؤلاء بعض المحلقين في الكوكب الحريري، وهنت عزائمهم، وأن ما يقوله كل منهم من شأنه أن يترك في النفس وقفة تساؤلات في الحد الأدنى وخيبات في الحد الأقصى، فيصيب بالتالي الكيانات التي يتزعمها هؤلاء ما منيت به حركات مقاومة فلسطينية وأحزاب وحركات عربية، حيث على سبيل المثال باتت حركة «فتح» ومن قبل رحيل ياسر عرفات «فتْحات» لكلِّ طيفٍ «فتْحه» بتسمية منمّقة، يختارها قبل أن يغادر عاتباً أو مصدوماً أو التحاقاً بنظام ثوري عربي يحتاج إلى ورقة فلسطينية في مشروعه لغرض في نفس أمَّارة بالتزعم الأبعد مدى العابر حدود وطنه.
كما أصاب التبعثر التنظيم الثاني الأهم في الفضاء الفلسطيني المقاوم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وفي حياة سيدها الدكتور حبش الذي عندما رحل كان تنظيمه قد بات «جبهات»، شأنه شأن الشجرة العقائدية الرائدة «حركة القوميين العرب» التي كانت «الجبهة الشعبية» غصناً منها والتي رحل رموزها، وأحدثُهم الدكتور أحمد الخطيب. ويحضرنا هنا قول المثلث العقيدي محسن إبراهيم على كثرة الانقسام المشار إليه «إن محسن انشقّ عن إبراهيم وأحمد انشقّ عن جبريل ونايف انشقّ عن حواتمة وهاني انشقّ عن الهندي ووديع انشقّ عن حداد وأحمد انشقّ عن الخطيب وغسان انشق عن كنفاني وصالح انشقّ عن شبل وحامد انشقّ عن الجبوري وبسام انشقّ عن الشريف». والتحق الزوبعيون بعدما ارتحل سيدهم الذي يحمل رتبة «الزعيم» بالموكب الانشقاقي وبذلك بات حُلم هلالهم الخصيب بعيد المنال وباتت النجمة قبرص مثبتة دستورياً بين اليونان وتركيا.
بات رموز المقاومة الفلسطينية في ذمة الله، وبات إرث الانقسام على حاله. ثم لم يثمر إمساك حزب البعث بالسُّلطة في كلٍّ من العراق وسوريا في تقديم تجربة حزبية مستقرة في العالم العربي، بدليل انتهاء البعث في العراق إسقاطاً وسجناً وشنقاً واجتثاثاً وشتاتاً في المنافي العربية والدولية. وأما البعث في سورياٍ فإنه بضعة سطور من الصفحة الأخيرة في كتاب ليس واضحاً أمر طيه، وهل تكون النهاية أقل مأساوية من الذي جرى في العراق أو مثيلة لها.
ما يعنينا قوله هنا هو أن إعادة النظر في الحد الأعلى وتعديل الخطاب وأسلوب المخاطبة في الحد الأدنى هو ما كان رموز العمل الحزبي والحركي والتياري في لبنان مطالَبين به من قبل، وبالذات بعدما تقرر إجراء الانتخابات البرلمانية. وبصرف النظر عما إذا كانت خشية أسياد تلك التنظيمات الحزبية من وقفات تأمل ومساءلة النفس تحدث في صفوف المحازبين وتصل إلى حد التبعثر على نحو ما أوردناه كأمثلة وأصابت تشققات تبعتها انشقاقات، فإن عدم مكاشفة الناس من قبل أن يبدأ الاستحقاق الانتخابي وعلى نحو ما قيل اضطراراً بعد إعلان النتائج وما أحدثته بعض الأرقام والوقائع من صدمات، كان سيعكس انطباعاً بأن أولئك الأسياد يريدون التكفير عن تصدعات حدثت في المجتمعات اللبنانية الطوائفية، وأنهم يريدون من الناس المغفرة واعتبار الاستحقاق الانتخابي اختباراً مثل الفحوصات الطبية والمخبرية والتي في ضوء نتائجها يأتي الدواء لمعالجة الداء.
من هنا فإن ما قاله الأسياد أولئك بعدما وضعت العملية الانتخابية الأوزار جاء تبعاً لذلك، وفي ضوئها بعض الحق والحقائق والتفاؤل خيراً بزهوق الباطل بكل ما حفلت به خمس سنوات ختامها بعد خمسة أشهر... من هنا إن ما قالوه يترك في النفس بعض التفاؤل يمهد وبالتدرج والإفصاح بنسبة من الضمير عمّا جاء في بعض الأقوال إلى أن مفردات النصح والتهدئة وعدم التطاول على الآخرين تحتاج إلى المزيد من التذكير والتركيز عليها في كل إطلالة تلفزيونية أو خطبة من على منبر أو تصريحاً لوسيلة إعلامية، وذلك من أجل نشر أجواء الطمأنينة التي تكتمل فصولاً، عندما يأخذ المتباعدون بالحكمة الإلهية التي تؤكد أن كتاب الله هو الذي يحكم بين الناس وليس «حزبه» ولا مشروع هذا الحزب. وتؤكد أيضاً أنه لا إكراه للرعية في الاقتراع وإبداء الرأي، إذ عندما يكون لا إكراه في الدين كما المبدأ الإلهي، فإن الإكراه في التزام الأمور الدنيوية الصادرة من البعض مثل فرائضية الاقتراع لطيف في حد ذاته وهذا إفقاد لجوهر العملية الانتخابية التي أساسها حرية الاختيار وليس إجبارية ولِطيفٍ دون آخر... إن مثل هذا الإكراه يناقض جوهر المبدأ الإلهي. ومع ذلك حدث الإكراه وكانت حالاته لا تدعو إلى الطمأنينة بدليل أن مفردات خطابهم في ضوء النتائج الصادمة نسبياً تؤكد ذلك. وهذا يجوز التساؤل: أليس كان الأكرم تضمين الحملة الانتخابية طمأنة الرعية من أسيادها بأن يمارسوا الحق الانتخابي اختياراً وليس إكراهاً، واستبدال الكلام الذي يندرج ضمن جوهر الكلام الذي قيل بعد إعلان النتائج، بالترهيب. فما دام ممكناً هذا الذي قيل تبريراً لصدمات انتخابية لم يخطر في البال حدوثها، لماذا لم يسمعه المحازبون وسائر اللبنانيين قبل ذلك وعندها تُجرى الانتخابات على نحو ما تُجرى في دول يتبادل الحاكم مع المحكومين احترام الرأي، ويصبح الاقتراع في هذه الحال بمثابة استفتاء على المصير؟
خلاصة القول إن في طيات العملية، لو حدثت، عبرة ودعوة إلى كلمة سواء تقال. الكتب السماوية هي التي تحكم بين الناس والتي تؤكد أنْ لا إكراه في أن تقال كلمة الحق من جانب الإنسان، اختياراً وليس قمعاً، لفظاً وافتعال عراك وصولات دراجية ليس فيها ملمح بسيط من الأصول كما من الشجاعة.
للتمنيات نحو كبار القوم الانتخابي اللبناني بقية. لكن يبقى ما يتمناه المرء «السيد المقاوِم» هو اعتبار كلامه بعد إعلان نتائج الاستحقاق الانتخابي الذي كان صادماً له، بداية نهج جديد في التخاطب وفي إضفاء الكثير من اللبننة على خطابه مع أنفاس عروبية... هذا إذا كان لا يريد إصابة مقاومته بما أصاب حالات مقاومة ونضال حزبي على مدى نصف قرن مضى، وذلك لأنه كما لا إكراه في الدين كذلك لا إكراه في إرادة الناس. وعندها سيقال إن المقاومة كانت بوجهيْن. أدت الدور العسكري وعليها بعد اليوم أداء واجب المشاركة في إعادة ترميم الوطن بدءاً بالإكثار من الكلام الذي يحنن عوض الكلام الرعدي المزمجر الذي كان في استمرار يجنن يصدر من حناجر البعض وكأنه قذائف نارية. ولكي لا يكون الأمر تعميماً فإن «الرئيس الآملي... العاملي» كان نبيهاً ومتنبهاً فلم يصدر منه على مدى ربع قرنه الترئيسي سوى الكلام الذي يروم منه جاهداً بلسمة جراح الحليف الشريك العميقة من دون أن تُشفى تماماً.
واختم بالتمني لو أن الرئيس نبيه بري اقتبس من الجنرال شارل ديغول قراره عندما رأى أنْ لا إجماع عليه فآثر الابتعاد إلى قريته الصغيرة، وبقي فيها في الظل مكلَّلاً بوهج تاريخي حظي بمثله الجنرال الآخر فؤاد شهاب، قراراً وسلوكاً وطريقة عيش.
ومَن يعنيه ذكْره دائماً بالخير يفعل ذلك.