بقلم: عبد الرحمن الراشد
فى تاريخ الشعوب مراحل فارقة تغير بعض المفاهيم الوطنية والأفكار الدينية والأحكام السياسية، تسقط فيها رموز وتولد رموز أخرى، وينضج فيها الوعى الجمعى على نار التجربة، يتعلم من الخطأ والصواب، ويطور معرفته بالحقيقة، بالإنسان وعلاقته بالدين.. وهكذا كانت ثورة 25 يناير 2011.
كانت الفوضى الفكرية أقرب ما تكون إلى الفوضى الأمنية، والأخيرة سمحت للعدو باقتحام السجن وتهريب المجرمين وانقلبت معهم الموازين: جزء غير قليل اعتبر أن «الشرطة هى العدو» ووقف متفرجاً فى أفضل الأحوال على اقتحام مقار «أمن الدولة» وأقسام الشرطة.. وبنفس الفكر اعتبر أن «الإخوان» فصيل وطنى وسلّم مفتاح العاصمة لـ«يوسف القرضاوى» ليأتى فاتحاً غازياً للبلاد فيما سُمى «جمعة قندهار».. هذا جزء من المشهد السوداوى وما أعقبه من صدامات دامية مع الإخوان بعدما استولوا على الحكم لندرك ما الذى غيرته فينا ثورة 30 يونيو 2013!
هذا الشعب راهن بحياته على ولاء القوات المسلحة وحماية الشرطة حين خرج يهتف «يسقط حكم المرشد»، كان يرى كاريزما المشير «عبدالفتاح السيسى» -آنذاك- تتشكل، وهو يسترد اليقين فى إيمانه بدولته.. وصدق حدس الشعب فى حكم «السيسى» وفى الجيش المصرى حائط الصد الأخير، إنه الجيش الذى لم نفقد ثقتنا فيه يوماً.. جيش متماسك صلب لا يعرف الطائفية ولا المذهبية، لا ينحاز إلا للشعب.
وبعد سنوات من العطاء لمصر وشعبها، سنوات تحقق فيها الاستقرار والقضاء على الإرهاب، وتحقيق إنجاز غير مسبوق فى معركة التنمية المستدامة (رغم ظروف الحرب الروسية-الأوكرانية، وجائحة كورونا).. بعد كثير من النجاحات لرفع التمييز عن المرأة والمسيحيين، بدأ الرئيس يلح فى «إعادة بناء الشخصية المصرية» تلك التى تشوهت بفعل الهجرة أحياناً وبفعل الأفكار المتطرفة وانتشار الجهل والأمية فى أحيان أخرى.. وأخذ «السيسى» يبدل تلك المنظومة الاجتماعية المشوهة التى تعتبر المسيحى كافراً والمرأة مواطناً من الدرجة الثانية بخطاب مستنير.. وقرارات سيادية تفكك منظومة الفكر المتطرف.. وقوانين تعيد صياغة العلاقات الاجتماعية وفقاً لقيم العدل والمساواة.. ولما يفرضه دستور البلاد.
كانت الخطوة الأولى للرئيس «السيسى» هى سعيه الدائم الدؤوب لتجديد الخطاب الدينى، طالب المؤسسة الدينية والمفكرين والمبدعين والفنانين.. لكن «القوى الناعمة» للمجتمع لم تستجب، اللهم إلا بعض الاجتهادات المتفرقة التى تلاحقها دعاوى التكفير.. والأعمال الفنية التى غيّرت الكثير من الأفكار الشاذة (على شاشة DMC فُتح حوار حول «ملف المواطنة» دون أى محظورات كان مفاجئاً لى)، وأزعم أن «الإعلام» هو القناة الصحيحة والفاعلة فى نشر الوعى بشفافية وحياد وموضوعية.
سوف أشير إلى بعض المحطات التى تعكس «عودة الوعى» للدولة العاقلة والمواطن الرشيد: كانت رسائل الرئيس دائماً واضحة، مفعمة بإرادة سياسية نادرة، حين تحدّث عن «الوعى الدينى».. وأفعال كثيرة لم يتوقف البعض عندها طويلاً.. «فى دولة المواطنة» تم تعيين المستشار الجليل «بولس فهمى» رئيساً للمحكمة الدستورية العليا وهو تطبيق عملى من القيادة السياسية للاستحقاق الدستورى بعدم التمييز على أساس «الدين» فى تولى مراكز القيادة العليا.. لقد تسلم الرئيس الوطن والكنائس تُحرق والقساوسة يتعرّضون للاغتيال الممنهج، و«داعش» تطرد المسيحيين من بيوتهم فى العريش.. فتجاوز حتى مفهوم المواطنة: (قبل عدة سنوات تعهّد الرئيس بحماية حرية العبادة حتى للادينى).. ولم يكتفِ بافتتاح كنيسة «الميلاد» بالعاصمة الإدارية الجديدة إلى جوار مسجد «الفتاح العليم».. بل وجّه وزير الإسكان الدكتور «عاصم الجزار» بألا يُبنى فى أى مشروع سكنى مسجد إلا وأمامه كنيسة (حتى لو كانت لشعائر عبادة 150 فرداً).
مصر فى معركة الوعى الدينى تواجه دولاً وأجهزة ومؤسسات وجهات تمويل، نعم العدو بهذا الثقل والتكتل، والحرب ضروس، لا تمحو من الذاكرة أبداً أن هذا البلد سقط فى قبضة الفاشية الدينية وحكمته عصابة الإخوان الإرهابية لمدة عام.. سقط الإخوان وبقيت «الفاشية الدينية» خلايا نائمة.. والآن مصر تتطهر من دنس الفكر الإرهابى، لكن المعركة شرسة وممتدة.. ونحن لها حتى يسقط «الإسلام السياسى».