الأيام الماضية، وحتى اليوم، جذبت شبكة «العربية» الاهتمام والمتابعة بفضل تحقيقها «سبقاً» صحافياً من خلال «الظفر بـ3 مقابلات مع 3 نساء من المحيط الخاص لزعيم تنظيم (داعش) و(خليفته) (أبو بكر البغدادي)».
«سبق» قدمته «العربية» لمتابعيها، من خلال الزميل المجتهد ماجد حميد من بغداد.
المقابلات كانت مع الزوجة الأولى «أم العيال»، والثالثة الصغيرة (نور)، والبنت اليافعة.
هذه المقابلات سلطت الضوء على الحياة الداخلية للبغدادي أثناء السنوات السوداء بالعراق وسوريا، مثل ملف الضحايا «السبايا» من الفئة الإيزيدية العراقية المنكوبة. وغير ذلك من المسائل الساخنة الغامضة.
ليس غرضي هنا التأمل في كلام النسوة الثلاث، وما كشفته تلك المقابلات من أمور تتصل بفكر وزمن وأخلاقيات وسياسات وخفايا «داعش».
غرضي هو الانتباه إلى قيمة الصحافة «الحقيقية»، وأنها ما زالت هي مصدر الثقة و«المهنية» الصافية، على خلاف ما يثرثر به أصحاب السلع الكلامية من تجار اللغو من القول.
السؤال هنا: هل ماتت الصحافة لصالح المؤثرين على السوشيال ميديا؟
نعم، هناك جملة من الصحافيين لم يكونوا على قدر من الكفاءة المهنية واللمعان الصحافي أثناء عملهم في الصحافة، فيمموا وجوههم نحو قبلة السوشيال ميديا، وبعضهم زاد الكيل حفنة من الغضب فـ«عق» والدته التي غذته بلبانها على حجر الصحافة.
وبعضهم ولى وجهه صوب السوشيال ميديا فقط ليعمل لصالح اسمه الخاص (يفتح على حسابه) ويجرب حظه مع المجربين.
هذه فئة، غير أن الأكثر لفتاً للنظر منها جمهرة من الموصوفين بالمؤثرين وبمعرفتهم بالصحافة؛ وأعني بذلك قدرات ومهارات مثل:
أصول الحوار الصحافي، وكيفية كتابة الخبر والتحقق منه، وكيفية إجراء تحقيق صحافي أو استقصاء أو تقرير، أو عرض كتاب، أو قراءة وثائق ومقارنتها... الخ.
معرفتهم بكل ذلك كمعرفة «شعبولا»، رحمه الله، بتاريخ عهد الميجي في اليابان! لكنهم يملكون ثقة ساطعة، ويجدون جماهير من المتابعين، وصارت جملة: شفت الخبر هذا في «تيك توك» أو «إكس»، تشبه عبارات الجدات والأجداد البسطاء قديماً: الراديو قال كذا وكذا. أي راديو؟... ليس مهماً.
ما يفتح السؤال على قضية كبرى عن «السبق» الصحافي أو السكوب. من، وما، هو مصدره اليوم، وهل انتهى دور الصحافي والصحافة في هذا الميدان؟
في تحقيق «صحافي» قبل أيام، عن هذه المسألة قالت «وفاء أبو شقرا» أستاذة الإعلام في الجامعة اللبنانية لـ«الشرق الأوسط» إنه «عندما نقول (سكوب) فإن ذلك يعني جهداً مضاعفاً نبذله للحصول على مادة إعلامية حصرية، نعمل لها شخصياً وتميّزنا عن غيرنا». فهل ينطبق هذا المعيار على ناس السوشيال ميديا.
أظن أن هذا ما يميز عمل الصحافي «المحترف».
وهو احتراف يوفره له المناخ الصحيح الذي يضمن له احترام مادته وسبقه وأخذه «على محمل الجد»؛ ذلك كله خلال العمل ضمن إطار مؤسسة صحافية موثوقة، أو بعد مسيرة حافلة، واكتساب خبرات وتحقيق صولات وجولات، تجعل من اسمه علامة مستقلة، أو بلغة اليوم «براند» بحد ذاته.
ثمة نجوم عبر تاريخ الصحافة دخلوا قاعة المجد بفضل سبقهم الصحافي، منهم كما ذكر التحقيق الصحافي المشار له قبل قليل: البريطانية كلير هولينغورث التي كانت أول من رصد تقدم الجيش النازي باتجاه الحدود الألمانية - البولندية، كاشفة عن انطلاق شرارة الحرب العالمية الثانية.
والصحافيان الاستقصائيان الأميركيان بوب وودورد وكارل بيرنشتاين وسبقهما في تحقيقهما الشهير عن «فضيحة ووترغيت»، وأضيف لهما: الصحافي الأميركي سيمور هيرش وفضيحة سجن أبو غريب في العراق.
عربياً، من أشهر صور السبق الصحافي الذي كان له أثر كبير، ما كشفته مجلة «الشراع» لصاحبها حسن صبرا عن فضيحة «إيران كونترا» وصفقات التسليح الأميركية للنظام الخميني، في عز ضجيج الآلة الدعائية للنظام ضد أميركا الذي يسميها «الشيطان الأكبر» سنة 1985.
سيظل هذا الجدل قائماً حول من هو الأجدر والأصدق في تمثيل العمل الصحافي، ابن المهنة أم ابن السوشيال ميديا؟
حتى تضع الحرب أوزارها... أو لا تضع أبداً.
وبعد، فلست أجحد أنه توجد مفاجآت سارة ومثيرة للإعجاب في مسارح السوشيال ميديا، على قلتها، لا تملك إلا الإشادة بمهارتها ودقتها وعلمها.