علبة سجائر محمود المليجى

علبة سجائر محمود المليجى!!

علبة سجائر محمود المليجى!!

 صوت الإمارات -

علبة سجائر محمود المليجى

بقلم -طارق الشناوي

 

استمعتُ مرة إلى الأديب الكبير الراحل د. يوسف إدريس كان يحكى أنه فى شبابه تعلم كيف يضع علبة السجائر فى الشراب، بعد أن شاهد محمود المليجى يفعل ذلك فى أحد الأفلام، فأصبحت علبة سجائره منذ ذلك الحين تعرف أن بيتها الوحيد هو (الشراب).

فى أحد مشاهد فيلم (اللمبى)، محمد سعد وهو فى طريقه للمدرسة قالت له أمه عبلة كامل: (متأكد إن ساندوتشك فى شنطتك، ومطوتك فى جيبك).

قطعًا علينا ألا نحاكم الدراما بصرامة، وبمعيار أخلاقى مباشر، وفى نفس الوقت لا نغفل تأثيرها. تُشن بين الحين والآخر هجمات على الفضائيات، باعتبارها هى المصدر الرئيسى لحالة الانفلات اللفظى والحركى، ونغفل أن ما يجرى فى الشارع كثيرًا ما يتجاوز ما نراه على الشاشة، هل نُحمِّل «الميديا» تبعات المسؤولية كاملة، تنقل الشاشة السلوك للشارع، فى نفس اللحظة التى تستقى فيه مفرداتها من الشارع؟

قبل نحو ما يزيد على ٣٠ عامًا أخرج أوليفر ستون فيلمه «ولدوا ليقتلوا» ينتقد فيه وسائل الإعلام، وكيف أنها صدَّرت العنف للمجتمع فبات أكثر دموية، استند إلى دراسة أكدت زيادة ملحوظة فى الجينات المحفزة للعنف فى السنوات الأخيرة- مقصود بها وقت إنتاج الفيلم فى التسعينيات- ولا أتصور أن الأمر يختلف الآن.

العلاقة كانت ولاتزال تبادلية بين الشارع والشاشة، تنقل «الميديا» ما يجرى فى الشارع ثم تصدره للناس، وبعد إعادة تدوير البضاعة، بعض الجرائم تم تنفيذها مباشرة محاكاة لفيلم أو مسلسل، كما أن بعض أساليب تعاطى المخدرات كانت الشاشة هى الوسيلة المضمونة لذيوعها، ورغم ذلك علينا أن نقول إن الكاتب يأخذ الواقعة من الشارع، وبعد إضافة تفاصيل تتوافق مع قانون الدراما، يعيدها مجددًا للشارع، وهكذا تذوب الحدود بين المنبع والمصب.

الشارع كان ولايزال يسمح بهامش من التجاوز اللفظى، زاد المعدل عن حدود المسموح.. تلك حقيقة رأيناها أيضًا على الشاشة.

فى كل لغات العالم تتوالد كلمات وتتغير الأطر الدلالية لبعض الكلمات، لديكم مثلًا تعبير (فشخ)، فى جيلنا تعتبر كلمة «أبيحة» أما فى اللغة الروشة فهى تعنى المبالغة فى التقدير، يجب علينا أن نذكر أن الكلمة قبل أن يتم تداولها لا تأخذ ضوءًا أخضر ولا تصريحًا رسميًا من (مجمع اللغة العربية)، ولكنها تنتزع حضورها عنوة فى الحياة، وكل زمن يطرح أسلوبه ومفرداته، ولو تابعت لغة التخاطب عبر «النت» ستكتشف أن ما تسمعه فى المسلسلات والأفلام والبرامج كلمات مهذبة جدًا، بالقياس لما هو مستخدم بكثافة الآن فى العالم الافتراضى.

كلمات مثل حضرتك وأفندم وبعد إذنك ولو سمحت وعفوًا وغيرها، يبدو أن عمرها الافتراضى قد انتهى من قاموس التعامل اليومى، ومن لايزال حريصًا عليها صار فى عُرف هذا الزمن «أنتيكة»!!

لو قلبت فى صفحات الدراما ستكتشف أن أشهر عبارة أحدثت ضجة فى العالم العربى ووُصفت وقتها بالانفلات، هى تلك التى أطلقتها فاتن حمامة فى فيلم «الخيط الرفيع» فى منتصف السبعينيات «ابن الكلب»، التى نعتت بها محمود يس فى حوار ساخن، كان من المستحيل العثور على مرادف لفظى آخر، إلا أن الذى حدث بعدها أن البعض طالب بالمعاملة بالمثل، ورأينا سيلًا عارمًا من مشتقاتها تتسلل للأفلام.

لا ينجح عمل فنى ولا برنامج لأن به بذاءات، الناس بطبعها تكره الإفراط، والحكمة تقول: (الفضيلة تقع بين رذيلتين: الإفراط والتفريط)، وهكذا بقدر ما أرفض تلك الأعمال التى تبدو مهذبة لدرجة التعقيم، فأنا أرفض أيضًا الإسراف الذى يصل إلى حد الإسفاف، النوعان مرفوضان، سواء تلك التى تغلف نفسها بغطاء من أوراق «السوليفان»، أو الأخرى التى تبدو وكأنها قد تخلصت تمامًا حتى من ورقة التوت.

لا نستطيع أن نعزل الشاشة عما نراه فى الشارع، ولا أن ننكر أن الدراما أيضًا أثرت فى لغة الشارع. إنهما وجهان لعملة واحدة، ولا أتصور أن ميثاق الشرف الإعلامى من الممكن أن يملك آليات للمواجهة، بعد أن أنجب الانفلات مزيدًا من الانفلات، لنترحم جميعًا على زمن علبة سجائر محمود المليجى!!.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

علبة سجائر محمود المليجى علبة سجائر محمود المليجى



GMT 01:28 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

بك من هارفارد

GMT 01:27 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

السياسة وعقل الدول

GMT 01:27 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

لغز ميشيل أوباما!

GMT 01:26 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

المؤرخ الريحاني ورعاية الملك الكبير

GMT 01:25 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

هل يتجه الجنوب «جنوباً»؟

GMT 01:25 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

الدخان الرمادي في غزة!

GMT 01:24 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

ترمب الثاني... بين الجمهورية والإمبراطورية

GMT 01:23 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

من أول يوم

GMT 20:01 2018 الثلاثاء ,13 شباط / فبراير

نيوزيلندا ترسل مساعدات لتونجا عقب إعصار "جيتا"

GMT 17:32 2017 الأربعاء ,18 تشرين الأول / أكتوبر

زلزال متوسط القوة يضرب شمال إيران

GMT 09:36 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

البرتغال الي يورو 2020 بفوز صعب على لكسمبورغ

GMT 15:54 2013 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

وزير التربية والتعليم ضيف الإعلاميِّ خيري رمضان الأربعاء

GMT 23:36 2013 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

95% نسبة إشغال البرج الأول في "نيشن تاورز"

GMT 14:28 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

مرسيدس تكشف عن سيارة جديدة بمحرك كهربائي

GMT 22:20 2013 الأحد ,18 آب / أغسطس

إنقاذ فيلة تزن 6 أطنان من الغرق

GMT 19:29 2014 الجمعة ,24 تشرين الأول / أكتوبر

نيبال تحتفل بمهرجان "تيهار" المخصص للحيوانات

GMT 11:31 2012 الثلاثاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة: القردة تعاني من أزمة منتصف العمر

GMT 16:51 2019 الثلاثاء ,26 آذار/ مارس

هايدي كلوم تلفت الأنظار بثوبٍ بلون الزمرد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates