أينما حل فهو الأستاذ، كان النجم الأول في السينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، وعندما مر الزمن ولم يعد اسمه يتصدر (الأفيشات) ولا (التترات) ظل باعتراف ومبايعة الجميع الأستاذ.
في السنوات الأخيرة من عمره، كان أحد أهم طقوس رمضان من خلال مسلسل (عمو فؤاد)، كان هو الهدف المشترك للكبار والصغار والكل ينتظر مدفع الإفطار.
في دنيا الكوميديا، أرى أن هناك ضحكات أشبه بنسمة هواء نتوق إليها في عز القيظ، إنه فؤاد المهندس أشهر وأهم مصادر الانتعاش في الوطن العربى!!.
هل تتذكرون هذه الأغنية (يالّا حالًا بالًا بالًا حيوا أبوالفصاد/ ح يكون عيد ميلاده الليلة أجمل الأعياد/ ما تحيوا أبوالفصاد).. إنه صوت فؤاد المهندس، الأغنية ربما مر عليها نحو 70 عامًا، بين الحين والآخر تعيد الإذاعة تقديمها، المؤكد أنها تثير بداخلنا البهجة التي تنساب في نبرات صوت (أبوالفصاد)!!. تعددت نجاحات، بل قُل قفزات فؤاد المهندس طوال تلك الرحلة، حتى ولو شهدت سنواته الأخيرة غيابًا عن خشبة المسرح وشاشة السينما لكنه عند الناس أبدًا لا يغيب. قبل نحو 25 عامًا، شاهدت مظاهرة حب بين فؤاد المهندس وجمهوره، كان حسين فهمى قد أصبح رئيسًا لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى، وقرر تكريم كل نجوم الكوميديا في مصر والعالم، وجاء ترتيب فؤاد المهندس في نهاية القائمة، بعد كل النجوم حتى يُصبح ختامها مسكًا، صعد فؤاد إلى خشبة مسرح دار الأوبرا، وعلى مدى تجاوز 7 دقائق لم ينقطع تصفيق الجمهور، ولم يكتفِ الجمهور بصوت الأكف، وقفوا جميعًا تحية لتاريخ فنان قدم إبداعه أكثر من نصف قرن، تواءم خلالها مع إيقاع الزمن، وقوانينه الصارمة التي تجعل المرونة هي عربون الاستمرار، شاهدت الدموع في عينى فؤاد المهندس الذي يبدو وكأنه لم يتوقع كل هذا الدفء، وشاهدت في نفس اللحظة دموع الجمهور، موقف لا يُنسى في تاريخ هذا الفنان، أحسبها ذروة أخرى قدمها لنا ناسك الكوميديا الأول في تاريخنا الفنى!!.
الفنان يظل في علاقة دائمة مع الزمن ومفرداته ولزماته، لكل حقبة يعيشها (شفرة) كامنة هي التي تحدد إمكانية التواصل ودرجته، فنان الكوميديا في العالم وليس فقط في مصر يواجه عدوًّا شرسًا اسمه الزمن.. كل حقبة تخلق جيلًا من الشباب، لا يضحك إلا من خلال تفاصيل خاصة جدًّا بالكلمة وأدائها ومدلولاتها، وفى العادة يتجاوب أكثر مع نجومه من الشباب!!. وهكذا نرى مثلًا كيف توهج إسماعيل يس ووصل للذروة في منتصف الخمسينيات ثم بدأ الانحدار منذ مطلع الستينيات، وهى بالتحديد المرحلة التي شهدت بزوغ مسرح التليفزيون، الذي أنشأه السيد بدير، وكان من رواده وقوته الضاربة فؤاد المهندس ومحمد عوض وأمين الهنيدى وأبوبكر عزت وشويكار ومحمد رضا، وخلفهم يقف «الكوتش» عبدالمنعم مدبولى..
حدثت تغيرات اقتصادية واجتماعية ونفسية بعد قوانين يوليو الاشتراكية خلّفت بالضرورة نوعًا آخر من الإبداع!!. كان فؤاد المهندس هو رأس الحربة لهذا الفريق الذي يحقق الأهداف الجماهيرية، رغم أن المسرحيات الناجحة مثل «أنا وهى وهو» أو «السكرتير الفنى» أو «حواء الساعة 12» وغيرها لم يستمر عرضها أكثر من أسبوعين، ثم تتوقف لتقدم مسرحية أخرى تُضاف إلى رصيد المسرح المصرى وإلى رصيد نجومها!!.
جاءت الانطلاقة الجماهيرية لفؤاد المهندس من خلال البرنامج الإذاعى الشهير (ساعة لقلبك) في مطلع الخمسينيات من القرن الماضى، الضحك يعتمد على كوميديا (الفارس)، وهو منهج هضمه جيدًا المهندس. ومدرسة «الفارس» تعتمد على الحشو والإفيهات؛ أي أنها تنتقل من موقف إلى آخر، وهدفها الوحيد هو الإضحاك.. شكلت هذه المدرسة الإذاعية في بداية انتشارها قبل انطلاق التليفزيون وفى عز ازدهار الإذاعة المصرية نقطة فارقة جدًّا في مشوار «فؤاد المهندس» وجيله اختصرت سنوات قادمة زرعت بداخل الجماهير بداية عصر كوميدى جديد!!. المهندس كان تلميذًا لنجيب الريحانى، أطلق عليه الريحانى لقب (التلميذ)، وكانت أكبر شهادة له عندما يطلب منه «نجيب الريحانى» أن يشترى له من (كشك) على الناصية علبة سجائر.
«فؤاد» حالة خاصة في تاريخ الكوميديا، مرحلة فاصلة بين جيلين: جيل إسماعيل يس، وجيل عادل إمام، انطلق المهندس في عز وهج إسماعيل يس ولم يصبح صدى له بل تمرد عليه. وكان تلميذًا لنجيب الريحانى وليس صورة منه، الإيقاع في الكلمة والحركة هما عنوان فؤاد المهندس.. ولو توقفت أمام جمل الحوار التي كتبها «بهجت قمر» أو «مدبولى» أو «يوسف عوف» فسوف تجد دائمًا أن روح «فؤاد» تطغى على الحوار بالأداء الصوتى والحركى، مصدر الضحك هو أسلوب الأداء، هذه الكلمات لو أنك تخيلتها على لسان فنان آخر فإن آخر ما يمكن أن تحققه هو إثارة الضحك.
«فؤاد المهندس» أستاذ الأداء الإيقاعى، كان هو أكثر نجوم الكوميديا قدرة على الغناء، وليس غريبًا أن يلحن له كبار الموسيقيين «محمد عبدالوهاب»، «كمال الطويل»، «محمد الموجى»، «بليغ حمدى»، «حلمى بكر» وكلهم أشادوا بصوته وبقدرته على التلوين والانتقال بسلاسة من مقام موسيقى إلى آخر وكأنه أحد عتاولة الغناء!!.
«فؤاد» استطاع على خشبة المسرح أن يتحكم في الشهوة التي نراها تسيطر على أغلب نجوم المسرح، وهى الرغبة في الاستحواذ على كل الضحك، حتى يتحول الجميع إلى مجرد (سنيدة) أو (كورس) وراء الفنان الأوحد، كان فؤاد بطلًا جماهيريًّا ولديه أيضًا صلاحيات بتهميش كل الأدوار الأخرى واحتكار كل الضحك لصالحه، إلا أنه كان قادرًا على إيقاف إحساس النرجسية التي تصيب أغلب نجوم الكوميديا، لم يتوقف عن منح الفرص للآخرين لكى يلمعوا.. في «أنا وهو وهى» دفع بعادل إمام للحصول على دوره دسوقى أفندى الذي ردد خلاله «إفيه» «بلد بتاعت شهادات صحيح»، وكانت شهادة شهرته.
وكان للفنان الراحل الضيف أحمد مساحة في المسرحية.. ولو امتد العمر بالضيف لأصبح نجمًا كوميديًّا كبيرًا.
«فؤاد المهندس» كانت لديه قدرة على أن يضبط هذه الانفعالات الداخلية الرافضة لبزوغ نجم آخر، عندما يكبر تلاميذه يقف بجوارهم في أدوار أصغر، العنصر النسائى في مسرح «فؤاد المهندس» ليس مجرد طبق فاتح للشهية يوضع على المائدة في انتظار الطبق الرئيسى، وهكذا مثلًا رأينا رفيقته وتوأمه الفنى والشخصى، فلقد حدث ولأول مرة في تاريخ المسرح التوازن الدرامى، وأعنى به الدويتو مع القديرة فنانة المسرح الاستثنائية «شويكار»!!. ووصل للذروة في مسرحية «سيدتى الجميلة»، شويكار لم تكن فقط تقاسمه البطولة، بل هي بوحشيتها وأنوثتها القوة الأساسية في العرض، الضحكات لشويكار نصيب متساوٍ مع فؤاد، بل زادت حصتها على حصته. وبعد شويكار جاءت مسرحيات (سك على بناتك) و(هالة حبيبتى) و(علشان خاطر عيونك)، دائمًا فؤاد يمنح الآخرين مساحات للتوهج، فمَن ينسى في هذه المسرحيات شريهان أو سناء يونس أو محمد أبوالحسن.
وفى التليفزيون «عيون» كان هذا المسلسل أفضل عمل كوميدى تليفزيوني قدمه «يونس شلبى» طوال مشواره لأنه وقف بجوار الأستاذ، وكانت «سناء جميل» في عز وهجها وألقها لأنها أيضًا تقف مع أستاذ الكوميديا، فمنحته من سحرها بقدر ما منحها من إبداعه!!.
محاولات صناعة نجم كوميدى سينمائى بدأت قبل منتصف الخمسينيات.. كان المخرج الكبير «محمود ذوالفقار»، الشقيق الأكبر لعزالدين ذوالفقار وصلاح ذوالفقار، لديه قناعة بأن «فؤاد المهندس» هو نجم الكوميديا الأول، في عز سيطرة «إسماعيل يس» راهن عليه بطلًا أمام «شادية» عام 1954 في فيلم «بنت الجيران» التجربة لم تنجح جماهيريًّا، بذكاء تعامل «فؤاد المهندس» مع الفشل ولم يتوقف أمام تعثره في البطولة باعتبارها نهاية المطاف.
وكان المخرج «عزالدين ذوالفقار»، وهو أستاذ الرومانسية في السينما العربية، يرى أن فؤاد المهندس يستحق مكانة خاصة في السينما المصرية، وفى فترة مبكرة جدًّا منحه أدوارًا مهمة في أفلام مغرقة في التراجيديا مثل «عيون سهرانة» بطولة «شادية» و«صلاح ذوالفقار».. «بين الأطلال» أمام فاتن حمامة وعماد حمدى، «نهر الحب» أمام فاتن حمامة وعمر الشريف وزكى رستم، «الشموع السوداء» أمام نجاة وصالح سليم، ثم «موعد في البرج»، وهذا هو آخر أفلام «عزالدين»، والذى أسند بطولته إلى سعاد حسنى وصلاح ذوالفقار.. وكان عز يقول إن فؤاد موهبة كوميدية لم تظهر منها سوى القشور فقط، ولم يكن المهندس يؤدى في هذه الأفلام دور «المضحكاتى» صديق البطل، كان له دوره ومساحته، إلا أن القدر لم يمهل عزالدين ذوالفقار لكى يقدم فؤاد المهندس بطلًا محوريًّا ورحل «عز» في مطلع عام 1962!!. حاول المخرج حلمى رفلة أن يصنع من فؤاد المهندس بديلًا لعبدالسلام النابلسى، وذلك في فيلم «معبودة الجماهير» 1967.. كان عبدالسلام النابلسى قد عاد إلى لبنان هروبًا من مطاردة مصلحة الضرائب المصرية له.. وارتبط النابلسى مع عبدالحليم بـ«دويتو»، وكان هو مركز الضحك، ولهذا اتجه على الفور «رفلة» إلى البديل الكوميدى فؤاد المهندس، ولكن فؤاد رغم نجاح التجربة حرص على ألا يكررها في أي أعمال أخرى حتى لا يصبح في الأفلام مجرد صديق للبطل..
كان فؤاد نجمًا كوميديًّا بكل المقاييس، وانطلق مباشرة بعد «معبودة الجماهير» إلى البطولة في فيلم «أرض النفاق» من إخراج رائد الكوميديا فطين عبدالوهاب، الفيلم عن قصة يوسف السباعى، وينتقد فيه ضعف البشر أمام سطوة المداهنة، وأن حبوب النفاق هي القادرة على أن تفتح كل الأبواب المغلقة، ولأول مرة يقدم دور (الكوميديان) الشرير.
في تاريخ السينما قدم العديد من الأفلام الجماهيرية الناجحة، «أخطر رجل في العالم»، «إجازة غرامية»، «الراجل ده حيجننى»، «شنبو في المصيدة» وقد حقق الفيلم الأخير نجاحًا تجاريًّا غير مسبوق، بعد أن قُدم أولًا كمسلسل إذاعى وعُرض سينمائيًّا في عام 68 مباشرة في أعقاب النكسة، ووقتها قالوا إن سر النجاح هو أن الجماهير بعد الهزيمة شعرت برغبة جامحة في الضحك والسخرية لتحقيق التوازن النفسى، ونجح «شنبو» في تقديم جرعات متلاحقة من الضحك صاغها إذاعيًّا وسينمائيًّا الكاتب الكبير أحمد رجب. وتعددت النجاحات الجماهيرية «عالم مضحك جدًّا»، «مطاردة غرامية»، «سفاح النساء» وغيرها، ثم تغيرت شفرة الضحك في مصر منذ نهاية السبعينيات مع تفجر موهبة «عادل إمام» وجيله، أصبحوا هم الأقرب إلى روح الشباب، وشارك فؤاد المهندس في أدوار بطولة ثانية مع تلميذه عادل إمام في أفلام مثل «خلى بالك من جيرانك» «خمسة باب» و«زوج تحت الطلب» وغيرها، وكان له دور لا يُنسى مع «أحمد زكى» في «البيه البواب»!!.
فؤاد المهندس لم يفقد روحه المرحة، وظل قادرًا على أن يرسل الضحكات رغم حزنه الشخصى بعد أن دخل ابنه البكر السجن، كنت أشاهده في السنوات الأخيرة من خلال البرامج التليفزيونية ضيفًا، وذلك بعد أن أصبح خارج الدائرة الفنية، واكتشفت أنه لم يفقد أبدًا خفة ظله ولا تواصله مع جمهور المشاهدين، وكان لديه إعجاب خاص بنانسى عجرم، التي كثيرًا ما أرسل إليها عبارات غزل على الهواء.
كان فؤاد المهندس الأستاذ قادرًا على أن يرسل لنا الضحكات رغم أنه كان يعيش الأحزان، وكم نشتاق إلى تلك النسمة في هذا الزمن الضنين، ولا يزال يرن في أذنى صوته الضاحك «يالّا حالًا بالًا بالًا حيوا أبو الفصاد»!!.